صفحة جزء
[ ص: 585 ] ومن حصل شروط الاجتهاد في مسألة ، فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها . ومنعه قوم لجواز تعلق بعض مداركها بما يجهله ، وأصله الخلاف في تجزؤ الاجتهاد .

ولنا : قول كثير من السلف الصحابة وغيرهم : لا أدري ، حتى قاله مالك في ست وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين .

قالوا : لتعارض الأدلة .

قلنا : ( لا أدري ) أعم من ذلك ، والأصل عدم العلم .

ولا يشترط عدالته في اجتهاده بل في قبول فتياه وخبره .


قوله : " ومن حصل شروط الاجتهاد في مسألة ، فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها ، ومنعه قوم " ، إلى آخره .

يعني : أن هذه الشروط المذكورة كلها إنما تشترط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع ، كالأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - ونحوهم . أما من أفتى في فن واحد ، أو في مسألة واحدة ، وجد فيه شروط الاجتهاد بالنسبة إلى ذلك الفن ، أو تلك المسألة ، فلا يشترط له ذلك ، وجاز له أن يجتهد فيما حصل شروط الاجتهاد فيه ، كمن عرف أصول الفرائض والحساب وهو فقيه النفس فيها عارفا بمعانيها جاز له أن يجتهد في مسألة المشركة ، ومسائل المناسخات والجد ، والمفقود ونحو ذلك ، وإن لم يكن له معرفة بمسائل البيع ، والنكاح ، والأخبار الواردة فيها ، ونحوها من مسائل الفروع .

ومنع ذلك قوم من الأصوليين ، فقالوا : لا يجتهد في مسألة إلا من حصل [ ص: 586 ] شروط الاجتهاد المطلق " لجواز تعلق " مدارك تلك المسألة " بما يجهله " ، فإن العلوم والفنون والمسائل يمد بعضها بعضا ، ويبرهن في بعضها على بعض ، فمن جهل فنا ، نقص عليه مادة فن آخر . ولهذا تزيد مادة العلم في فن بتحصيله فنا آخر ، فإذا عرف الكلام والمنطق ونحو ذلك من المعقولات ، ظهر أثر ذلك في صحة تصوره للحقائق ، وتقريره للأدلة وتركيبه للأقيسة ، وإذا عرف الحساب والهندسة ، ظهر أثر ذلك في مهارته في الفرائض والوصايا ، واستخراج المجهولات ، وعلى هذا فقس . وإذا جاز تعلق بعض مدارك المسألة بما يجهله من المسألة لم يكن مجتهدا فيها مطلقا ، فلا يجوز له الاجتهاد .

قوله : " وأصله الخلاف في تجزؤ الاجتهاد " . يعني أن أصل هذا النزاع هو الخلاف في أن منصب الاجتهاد هل يصح أن يتجزأ بمعنى : أن ينال العالم رتبة الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض ؟ وقد أجازه الغزالي وغيره ، وهو الحق ، ومسألة النزاع وأصلها هذا المذكور واحد عند التحقيق .

قوله : " لنا " ، إلى آخره . هذا هو الدليل على تجزؤ الاجتهاد ، وتقريره : أن كثيرا من أئمة السلف الصحابة وغيرهم كانوا يسألون عن بعض مسائل الأحكام ، فيقولون : لا ندري ، " حتى قاله مالك - رضي الله عنه - " ، أي : قال : لا أدري " في ست وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين " ، يعني أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها : لا أدري ، وقد توقف الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - بل الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - [ ص: 587 ] في الفتاوى كثيرا ، فلو كان الاجتهاد المطلق في جميع الأحكام ، شرطا في الاجتهاد في كل مسألة على حدتها ؛ لما كان هؤلاء الأئمة مجتهدين ، لكنه خلاف الإجماع ، فدل على أن ذلك لا يشترط .

قوله : " قالوا : لتعارض الأدلة ، قلنا : ( لا أدري ) أعم من ذلك ، والأصل عدم العلم " هذا سؤال من المانعين لتجزؤ الاجتهاد .

وتقريره : أنا لا نسلم أن قول مالك وغيره : لا أدري ، كان لعدم آلة الاجتهاد فيما سئلوا عنه ، وإنما كان ذلك لتعارض الأدلة عندهم ، وذلك لا يقدح في كونهم مجتهدين ، إذ شأن المجتهد الجواب تارة ، والتوقف أخرى ، بحسب ظهور الدليل وخفائه . وحينئذ ما اجتهد منهم في آحاد المسائل إلا مجتهد مطلق باجتهاد كلي لا جزئي . وحينئذ لا يصح دليلكم على تجزؤ الاجتهاد .

وتقريره الجواب من وجهين :

أحدهما : أن قول الواحد منهم : لا أدري ؛ أعم من أن يكون لتعارض الأدلة في تلك المسألة ، أو لعدم اجتهاده فيها ، فحمله على أحدهما لا دليل عليه ، إذ هو أمر خفي لا يعرف إلا من جهة ذلك الإمام المفتي ، ولم يوجد منه إخبار به .

والوجه الثاني : أن الأصل عدم علم ذلك الإمام بحكم تلك المسألة ، فيستصحب فيه الحال ، ويحمل على أنه إنما وقف في الجواب لعدم علمه به ، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل .

[ ص: 588 ] قوله : " ولا يشترط عدالته في اجتهاده ، بل في قبول فتياه وخبره " .

أي : لا يشترط عدالة المجتهد في كونه مجتهدا ، لأن تصور الأحكام ، واقتناصها بالأدلة يصح من العدل والفاسق ، بل والكافر . ولهذا اجتهد الكفار في مللهم ، وصنفوا فيها الدواوين ، وإنما تشترط عدالته لقبول فتياه ، وإخباره أن هذا حكم الله - عز وجل - وأن الدليل الشرعي دل عليه .

وفائدة هذا التفصيل : أن الفاسق له أن يجتهد في الحكم ، ويأخذ به لنفسه ، أي : يعمل به ، ولا يلزم غيره العمل باجتهاده وقبول خبره فيها بدون العدالة ، فلو أدى الفاسق اجتهاده إلى أن ما دون القلتين لا ينجس إلا بالتغيير ، لزمه استعماله إذا كان لم يجد غيره للصلاة ، ولا يلزم ذلك غيره ممن لا اجتهاد له ، ويعدل إلى التيمم . وهذه تشبه ما سبق في اعتبار الفاسق في الإجماع ، وأن إجماعه معتبر في حق نفسه ، دون غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية