صفحة جزء
[ ص: 621 ] الخامسة : ليس للمجتهد أن يقول في مسألة قولين في وقت واحد عند الجمهور ، وفعله الشافعي في مواضع .

منها : قوله في المسترسل من اللحية قولان : وجوب الغسل ، وعدمه .

لنا : إن كانا فاسدين وعلم ، فالقول بهما حرام ، فلا قول أصلا ؛ أو أحدهما كذلك فلا قولين ، أو صحيحين فالقول بهما محال لاستلزامهما تضاد الكلي والجزئي ، وإن لم يعلم الفاسد فليس عالما بحكم المسألة ، فلا قول له فيها ، فيلزمه التوقف ، أو التخيير ، وهو قول واحد لا قولين .

وأحسن ما يعتذر به عن الشافعي أنه تعارض عنده الدليلان ، فقال بمقتضاهما على شريطة الترجيح ، وما حكي عنه وعن غيره من القولين والروايتين ففي وقتين ، ثم إن علم آخرهما فهو مذهبه كالناسخ ، وإلا فكدليلين متعارضين ، ولا تأريخ .


المسألة " الخامسة : ليس للمجتهد أن يقول في مسألة قولين في وقت واحد عند الجمهور ، وفعله الشافعي في مواضع ؛ منها قوله : في المسترسل من اللحية قولان : وجوب الغسل وعدمه " . ونقل الآمدي وغيره أن ذلك وقع منه في سبع عشرة مسألة .

قلت : ووقع ذلك من أحمد - رضي الله عنه - ، قال أبو بكر في " زاد المسافر " : قال - يعني أحمد في رواية أبي الحارث - : إذا أخرت المرأة الصلاة إلى آخر وقتها ، فحاضت قبل خروج الوقت ، ففيه قولان ؛ أحد القولين لا قضاء عليها ، لأن لها أن تؤخر إلى آخر الوقت ، والقول الآخر : إن الصلاة قد وجبت عليها بدخول الوقت فعليها القضاء ، وهو أعجب القولين إلي .

[ ص: 622 ] انتهى . قال عبد العزيز : وبهذا أقول .

قوله : " لنا : إلى آخره " . هذا توجيه لبطلان إطلاق القولين في وقت واحد ، ورد على من ربما يجيزه .

وتقريره : أن القولين المذكورين إما أن يكونا فاسدين ، أو أحدهما ، أو صحيحين ، فإن كانا فاسدين ، أو أحدهما ؛ فإما أن يعلم بالفساد أو لا ، فإن علم بفسادهما ، فالقول بهما حرام ، إذ لا قول له في المسألة أصلا ، إذ لا يسمع من قوله وقول غيره إلا الصحيح ، دون الفاسد ، وكذلك إن كان الفاسد أحدهما ، وعلم به ، " فلا قولين " ، بل هو قول واحد ، وإن لم يعلم الفاسد من قوليه ، سواء كان الفاسد أحدهما أو كلاهما " فليس عالما بحكم المسألة ، فلا قول له فيها ، فيلزمه التوقف أو التخيير " ، وكل واحد من التوقف أو التخيير " قول واحد لا قولين " ، وإن كانا صحيحين ، فالقول بهما محال لاستلزامهما التضاد الكلي أو الجزئي .

الإشارة بهذا إلى الأقوال المتقابلة بالنفي والإثبات ، والوسائط التفصيلية بينهما ، ففي الأقوال المتقابلة يلزم التضاد الكلي ، وفي بعضها مع الوسائط التفصيلية يلزم التضاد الجزئي .

مثاله : أن عن أحمد في إخراج الزكاة عن بلدها إلى مسافة القصر ثلاثة أقوال : النفي ، والإثبات ، والثالث : يجوز إلى الثغور دون غيرها ، فلو فرضنا أنه قال في هذه المسألة : يجوز ولا يجوز في وقت واحد ؛ لكان هذا تضادا كليا ، بمعنى أن الجواز الكلي في جميع أفراد الزكاة وأماكن إخراجها [ ص: 623 ] قابل المنع الكلي في ذلك . ولو قال : لا يجوز ، ويجوز إلى الثغور خاصة ؛ لكان هذا تضادا جزئيا ؛ بمعنى أن المنع الكلي في جميع أفراد الزكاة قابل الجواز الجزئي في بعض أفراد الزكاة ، بالإضافة إلى بعض أماكن إخراجها وهي الثغور . وهذا اصطلاح لي ذكرته ، فإن كان ظاهرا أو معروفا ، وإلا فها قد بينته ، والأحكام المتقابلة ووسائطها كثيرة في كلام الأئمة ، وتلك الوسائط راجعة في الأكثر إلى قياس الشبه كما سبق .

وقد وقع تقرير هذا الدليل على خلاف ترتيبه في " المختصر " ، إذ هو فيه على هذا المثال : إن كان القولان فاسدين ، وعلم المجتهد فسادهما ، فالقول بهما حرام ، فلا قول له أصلا ، وإن كان الفاسد أحدهما فكذلك ، أي : فالقول به حرام فلا قولين ، بل هو قول واحد صحيح ، ولا عبرة بالفاسد ، وإن كانا صحيحين ، فالقول بهما محال لاستلزامهما التضاد المذكور ، وإن لم يعلم الفاسد ، أي : إن لم يعلم بفسادهما أو فساد أحدهما ، فليس عالما بحكم المسألة ، فلا قول له فيها ، فيلزمه التوقف أو التخيير ، وهو قول واحد لا قولين .

قوله : " وأحسن ما يعتذر به عن الشافعي أنه تعارض عنده الدليلان " ، يعني دليلا القولين في المسألة ، " فقال بمقتضاهما " ، أي : أطلق القول بذلك " على شريطة الترجيح " ، أي : بشرط أن ينظر فيهما بعد ، فيرجح ما ظهر رجحانه . واتفق أنه مات - رضي الله عنه - قبل أن يرجح المسائل السبع عشرة المذكورة .

قال القرافي : إن قيل : كيف يتصور أن يقول المجتهد : في المسألة قولان ؛ مع أنه لا يتصور عنده الرجحان ؟ قيل : معناه أنه أشار إلى أنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل واحد منهما عالم ، لتقاربهما من الحق ، أو [ ص: 624 ] إلى أنهما قولان للعلماء .

قال الآمدي : إن ذكر القولين بطريق الحكاية عن غيره ، فليس ذلك قولا له ، وإن كان بطريق الاعتقاد لهما معا ؛ فهو محال ، وإن كان بطريق التخيير بينهما كخصال الكفارة ؛ فهو قول واحد لا أقوال . وهذا موضعه عند ذكر دليل المسألة ، لكني استدركته ههنا ، وإن كان قد سبق معناه .

قلت : والقولان اللذان حكيناهما عن أحمد ، الظاهر أنهما قولان له ، أطلق القول بهما على شريطة الترجيح ، وقد عقبهما به حيث قال : وهذا أعجب القولين إلي ، وحكايته لهما عن العلماء خلاف الظاهر ، لوجهين :

أحدهما : أن الأصل إضافة الكلام إلى من صدر منه .

الثاني : لو حكاهما عن غيره ، لبين ذلك ، حذرا من التلبيس على السامع ، وتردده بين أن هذا مذهبه أو غيره .

قوله : " وما حكي عنه " ، أي : عن الشافعي وغيره من الأئمة - رضي الله عنهم - " من القولين للشافعي " والروايتين " عن أحمد وغيره ، فإنما كان ذلك في وقتين ، لا في وقت واحد ، وذلك لا تناقض فيه ، لأن المجتهد تابع لظهور الدليل عنده ، وذلك يختلف ، فتارة يظهر وتارة لا يظهر ، فتختلف أقواله في الأوقات لذلك ، كما تختلف نصوص صاحب الشرع باختلاف المصالح أو الوحي أو الاجتهاد ، وكثيرا ما يقول أحمد - رضي الله عنه - كنت أقول كذا ثم تركته ، أو جبنت عنه ، كقوله في المتيمم يجد الماء في الصلاة : كنت أقول : يمضي في صلاته ، ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج . وقوله : كنت أقول : إن من قال بخلق القرآن لا يكفر ، ثم نظرت فإذا القرآن من علم الله ، [ ص: 625 ] ومن زعم أن علم الله مخلوق ، فهو كافر . وهذا شبيه بقول الشارع : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا أتاكم كتابي هذا ، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ، غير أن الفرق بين رجوع الشارع عن قوله ، والأئمة عن أقوالهم : أن رجوع الأئمة لظهور الخطأ لهم ، بخلاف الشارع ، فإنه معصوم من الخطأ ، فرجوعه لاختلاف المصالح لا للخطأ ، إلا على رأي من يجيزه في اجتهاد النبي - عليه الصلاة والسلام - ويجيز وقوعه منه ، فيكون رجوعه عنه كرجوع الأئمة عن أقوالهم . ولعل قوله - عليه السلام - لبعض أصحابه : إن وجدتم فلانا وفلانا فحرقوهما ثم دعا بهم فقال : إن وجدتموهما فاقتلوهما ولا تحرقوهما ، فإنه لا يعذب بالنار إلا ربها من هذا الباب إن لم يحمل على ترك الأولى .

قوله : " ثم إن علم آخرهما ، فهو مذهبه كالناسخ " . أي : إذا أطلق المجتهد قولين في وقتين ؛ فإن علم آخر القولين ، فهو مذهبه دون الأول ، فلا يجوز بعد رجوعه عنه أن يفتي به ، ولا يقلد فيه ، ولا يعد من الشريعة ، كالناسخ والمنسوخ في كلام الشارع ، ويبقى العمل على الناسخ المتأخر ويترك المنسوخ المتقدم من جهة العمل به ، لأن نصوص الأئمة بالإضافة إلى [ ص: 626 ] مقلديهم ؛ كنصوص الشارع بالإضافة إلى الأئمة .

فإن قيل : إذا كان القول القديم المرجوع عنه لا يعد من الشريعة بعد الرجوع عنه ، فما الفائدة في تدوين الفقهاء للأقوال القديمة عن أئمتهم ؟ حتى ربما نقل عن أحدهم في المسألة الواحدة القولان والثلاثة كثيرا والأربعة ؛ كما في بينة الداخل والخارج عن أحمد ، والستة ؛ كما في مسألة متروك التسمية عنه ، ونقل عنه أكثر من ذلك .

قيل : قد كان القياس أن لا تدون تلك الأقوال ، وهو أقرب إلى ضبط الشرع ، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه ، فتدوينه تعب محض ، لكنها دونت لفائدة أخرى ، وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء ، وأن تلك الأقوال قد أدى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات ، وذلك مؤثر في تقريب الترقي إلى رتبة الاجتهاد المطلق أو المقيد ، فإن المتأخر إذا نظر إلى مآخذ المتقدمين نظر فيها ، وقابل بينها ، فاستخرج منها فوائد ، وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها ، وذلك من المطالب المهمة ، فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة ، وهي عامة . وثم فائدة خاصة بمذهب أحمد ، وما كان مثله ، وذلك أن بعض الأئمة ، كالشافعي ونحوه نصوا على الصحيح من مذهبهم ، إذ العمل من مذهب الشافعي على القول الجديد ، وهو الذي قاله بمصر ، وصنف فيه الكتب كالأم ونحوه . ويقال : إنه لم يبق من مذهبه شيء لم ينص على الصحيح منه إلا سبع عشرة مسألة ، تعارضت فيها الأدلة ، واخترم قبل أن يحقق النظر فيها ، بخلاف الإمام أحمد ونحوه ، فإنه كان لا يرى تدوين الرأي ، بل همه الحديث وجمعه ، وما يتعلق به ، وإنما نقل [ ص: 627 ] المنصوص عنه أصحابه تلقيا من فيه ، من أجوبته في سؤالاته وفتاويه ، فكل من روى منهم عنه شيئا دونه ، وعرف به كمسائل أبي داود ، وحرب الكرماني ، ومسائل حنبل ، وابنيه صالح ، وعبد الله ، وإسحاق بن منصور ، والمروذي ، وغيرهم ممن ذكرهم أبو بكر في أول " زاد المسافر " وهم كثير ، وروى عنه أكثر منهم ، ثم انتدب لجمع ذلك أبو بكر الخلال في " جامعه الكبير " ، ثم تلميذه أبو بكر في " زاد المسافر " ، فحوى الكتابان علما جما من علم الإمام أحمد - رضي الله عنه - من غير أن يعلم منه في آخر حياته الإخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع ، غير أن الخلال يقول في بعض المسائل : هذا قول قديم لأحمد رجع عنه ، لكن ذلك يسير بالنسبة إلى ما لم يعلم حاله منها ، ونحن لا يصح لنا أن نجزم بمذهب إمام حتى نعلم أنه آخر ما دونه من تصانيفه ومات عنه ، أو أنه نص عليه ساعة موته ، ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد ، والتصحيح الذي فيه ، إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده ، كابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي رحمة الله عليهم أجمعين ، لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا ، لا يحصل الوثوق من تصحيحهم لمذهب أحمد ، كما يحصل من تصحيحه هو لمذهبه قطعا ، فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء ، وبلغ من العلم درجتهم أو قاربهم ، جاز له أن يتصرف في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرفهم ، ويصحح منها ما أدى اجتهاده إليه ، وافقهم أو خالفهم ، وعمل بذلك وأفتى . وفي عصرنا من هذا القبيل شيخنا الإمام العالم [ ص: 628 ] العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني حرسه الله تعالى ، فإنه لا يتوقف في الفتيا على ما صححه الأصحاب من المذهب ، بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده ، فتكون هذه فائدة خاصة بمذهب أحمد ، وما كان مثله لتدوين نصوصه ونقلها ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية