صفحة جزء
[ ص: 646 ] وإذا نص على حكمين مختلفين في مسألة ، فمذهبه آخرهما إن علم التاريخ ، كتناسخ أحكام الشارع ، وإلا فأشبههما بأصوله وقواعد مذهبه وأقربهما إلى الدليل الشرعي .

وقيل : كلاهما مذهب له ، إذ لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ، فإن أريد ظاهره فممنوع ، وإن أريد ما عمل بالأول لا ينقض ، فليس مما نحن فيه ، ثم يبطل بما لو صرح برجوعه عنه ، فكيف يجعل مذهبا له مع تصريحه باعتقاد بطلانه ، ولو خالع مجتهد زوجته ثلاث مرات يعتقد الخلع فسخا ، ثم تغير اجتهاده فاعتقده طلاقا لزمه فراقها ، ولو حكم بصحة نكاح مختلف فيه حاكم ، ثم تغير اجتهاده لم ينقض ، للزوم التسلسل بنقض النقض ; واضطراب الأحكام ; ولو نكح مقلد بفتوى مجتهد ، ثم تغير اجتهاده فالظاهر لا يلزمه فراقها ، إذ عمله بالفتيا جرى مجرى حكم الحاكم ، والله سبحانه أعلم .


قوله : " وإذا نص على حكمين مختلفين في مسألة " كقوله : يجزئ إخراج القيمة في الزكاة ولا يجزئ ; " فمذهبه آخرهما " ، أي : آخر الحكمين " إن علم التاريخ " ، أي : لا يخلو إما أن يعلم تاريخ القولين أو لا ، فإن علم ; فمذهبه آخرهما ، " كتناسخ أحكام الشارع " ، أي : كما يؤخذ بالآخر فالآخر من أحكام الشرع ، كذلك يؤخذ بالآخر فالآخر من أحكام الأئمة ، لما سبق من أن نصوص الأئمة بالإضافة إلى مقلديهم كنصوص الشارع بالإضافة [ ص: 647 ] إلى الأئمة . وإن لم يعلم التاريخ فمذهبه أشبه القولين " بأصوله " ، أي : بأصول الإمام " وقواعد مذهبه وأقربهما " ، أي : أقرب القولين " إلى الدليل الشرعي " ترجيحا لأحد القولين بذلك ، فإن الأصل والظاهر من حال الإمام مع سبره الأحكام والنظر في مآخذها أنه يطرد أصوله وقواعده فيها ، وأنه لا يخالف الدليل الشرعي .

ومثال ذلك : ما لو اختلف نص أحمد في أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر ، لكان الأشبه بأصله أنهم لا يملكون بناء على تكليفهم بالفروع كما سبق ، وهو أشبه بقاعدته في أن الأسباب المحرمة لا تفيد الملك ، ولذلك رجحه أبو الخطاب ، ونصره في تعليقه ; وإن كان مخالفا لنصوص أحمد على أنهم يملكونها .

ولما اختلف نصه في أن بيع النجش ، وتلقي الركبان ونحوهما باطل ; كان الأشبه بأصله البطلان بناء على اقتضاء النهي الفساد مطلقا .

قوله : " وقيل : كلاهما " ، أي : كلا القولين المختلفين في المسألة " مذهب له " ، أي : للإمام ، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، والقولان باجتهادين ، فلا ينقض أحدهما الآخر .

قوله : " فإن أريد ظاهره " ، أي : ظاهر قولهم : كلا القولين مذهب له بمعنى أن الفتيا والعمل على كل واحد منهما ، فهو " ممنوع " ، أي : لا نسلمه ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، " وإن أريد " بكونهما مذهبا له " أن ما عمل " بالقول الأول من حكم وعبادة " لا ينقض " ، ولا يجب قضاؤها " فليس " ذلك " مما نحن فيه " أي : ليس هذا محل النزاع ، إنما النزاع فيما إذا تغير اجتهاده هل [ ص: 648 ] يبقى القول الأول أم لا ؟ وأحدهما غير الآخر . وأما عدم نقض ما عمل بالقول الأول ، فلا يوجب بقاؤه مذهبا لجواز امتناع النقض لعارض أو مصلحة راجحة .

قوله : " ثم يبطل " - يعني ما ذكروه من قولهم : لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد - " بما لو صرح " الإمام " برجوعه عنه " ، أي : برجوعه عن القول الأول ، فإنه إذا صرح برجوعه عنه ، فإما أن لا يبقى مذهبا له فقد نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، وهو الذي نفاه الخصم ، أو يبقى مذهبا له ، فكيف يصح ذلك مع تصريحه باعتقاد بطلانه ، فإن ذلك لا يجوز .

قوله : " ولو خالع مجتهد زوجته " ، إلى آخره هذا من فروع نقض الاجتهاد بالاجتهاد وصوره . ومعناه : أن مجتهدا لو خالع زوجته ثلاث مرات ، وهو " يعتقد الخلع فسخا " لا طلاقا ، " ثم تغير اجتهاده فاعتقده طلاقا ، لزمه فراقها " ، لأنها صارت بموجب هذا الاجتهاد الثاني مطلقة ثلاثا وهو يعتقد صحته ، فلم يجز له إمساك من يعتقد تحريمها بالطلاق الثلاث .

قوله : " ولو حكم بصحة نكاح مختلف فيه حاكم " مثل أن حكم بصحة النكاح بلا ولي أو شهود حاكم حنفي ، أو مجتهد غيره ، " ثم تغير اجتهاده " ، فرأى ذلك النكاح باطلا ، " لم ينقض " ذلك الاجتهاد الأول بالتفريق بين الزوجين ، وذلك " للزوم التسلسل بنقض النقض " ، أي : لو نقض الحكم الأول بالثاني لتغير اجتهاد الحاكم ، لوجب أن ينقض الحكم الثاني بالثالث إذا تغير [ ص: 649 ] اجتهاده ، وهلم جرا ; كلما تغير اجتهاده ، حكم بحكم ، ونقض الذي قبله ، فيتسلسل النقض ، وتضطرب أحكام الناس لنقضها بعد ترتيبها على تلك الاجتهادات ، وقد كان القياس أن ينقض الحكم بما ينافيه من الاجتهاد بعده ، كما ينقض الاجتهاد المجرد عن حكم بمثله كما في مسألة الخلع ، لكن ههنا ترك القياس للاستحسان تحصيلا لضبط الأمور ، وصيانتها عن الانتشار .

قوله : " ولو نكح مقلد بفتوى مجتهد ، ثم تغير اجتهاده " - يعني اجتهاد المجتهد - " فالظاهر " أنه لا يلزم ، أي : لا يلزم المقلد فراق زوجته لتغير اجتهاد المجتهد عما أفتاه به أولا ، " إذ عمله بالفتيا جرى مجرى حكم الحاكم " .

وقد بينا أن حكم الحاكم لا ينقض ، فكذا ما جرى مجراه .

وحاصل ما ذكر : أن اجتهاد المجتهد إما أن يتجرد عن الحكم والفتوى ، أو لا يتجرد .

فإن تجرد عنهما ، وجب نقضه بالاجتهاد المخالف له بعده .

وإن اقترن به حكم لم ينقض ، واستؤنف العمل بالاجتهاد الثاني .

وإن اقترن به الفتيا ، والعمل بها ، احتمل أن لا ينقض ما عمل بها مطلقا في النكاح وغيره ، تنزيلا للعمل بها منزلة حكم الحاكم ، واحتمل أن ينقض ما سوى النكاح ، كما فرض في المختصر ، فرقا بينه وبين غيره بما عرف من خواصه ، وتشوف الشرع إلى تكثيره ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية