صفحة جزء
[ ص: 650 ] التقليد

لغة : جعل شيء في العنق محيطا به ، والشيء قلادة .

وشرعا : قبول قول الغير من غير حجة ، كأن المقلد يطوق المجتهد إثم ما غشه به في دينه ، وكتمه عنه من علمه أخذا من قوله تعالى : ألزمناه طائره في عنقه على جهة الاستعارة ، وليس قبول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تقليدا ، إذ هو حجة في نفسه .

ويجوز التقليد في الفروع إجماعا ، خلافا لبعض القدرية .

لنا : الإجماع على عدم تكليف العامة ذلك ، ولأن المخطئ فيها مثاب فلا محذور .

قالوا : الواجب العلم ; أو ما أمكن من الظن ، والحاصل منه باجتهاد أكثر .

قلنا : فاسد الاعتبار لمخالفته النص والإجماع ، ثم تكليفهم الاجتهاد يبطل المعايش ، ويوجب خراب الدنيا في طلب أهليته ، ولعل أكثرهم لا يدركها فتتعطل الأحكام بالكلية .


" التقليد لغة " أي : هو في اللغة " جعل شيء في العنق " عنق الدابة وغيره " محيطا به " ، احترازا مما إذا لم يكن محيطا بالعنق ، فلا يسمى قلادة في عرف اللغة ولا غيرها ، وذلك كالعقود ،المخانق ، والمرسلات في حلوق النساء والصبيان ، والسبح التي هي في حلوق المتزهدين ، والقلائد في أعناق [ ص: 651 ] الخيل . وفي الحديث : اركبوا الخيل ولا تقلدوها الأوتار ، أي : لا تجعلوا الأوتار قلائد في أعناقها خشية أن تختنق إذا أمعنت في الجري ، لانتفاخ أوداجها . هذا هو ظاهر الحديث ، وقيل فيه غير ذلك .

قوله : " والشيء " - يعني المحيط بالعنق - يسمى " قلادة " ، وجمعها قلائد ، ومنه قوله - عز وجل - : والهدي والقلائد [ المائدة : 2 ] يعني ما يقلده الهدي في عنقه من النعال أو آذان القرب ونحوها .

قوله : " وشرعا " ، أي : والتقليد شرعا ، أي : في عرف الشرع : " قبول قول الغير من غير حجة " ; استعارة من المعنى اللغوي ، " كأن المقلد يطوق المجتهد [ ص: 652 ] إثم ما غشه به في دينه ، وكتمه عنه من علمه " ، أي : يجعله طوقا في عنقه " أخذا من قوله " - عز وجل - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [ الإسراء : 13 ] " على جهة الاستعارة " يعني من التقليد اللغوي كما سبق .

قوله : " وليس قبول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تقليدا إذ هو - يعني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة في نفسه " .

قلت : قال الآمدي : التقليد عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة ، كأخذ العامي بقول مثله ، والمجتهد بقول مثله في الأحكام الشرعية ، بخلاف اتباع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقول الأمة - يعني في الإجماع - والعامي للمفتي لعدم عروه عن الحجة الملزمة به .

قلت : هذا منه على جهة الفرق بين ما هو تقليد أو غيره .

والتحقيق التفصيل وهو أن يقال : إن أريد بالحجة ما أفاد مدلوله بذاته من غير واسطة ، فهذا كله تقليد ، وإن أريد بها ما أفاد مدلوله مطلقا ، فليس ذلك تقليد ، لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يفيد مدلوله بواسطة تصديق المعجز له ، والإجماع يفيد مدلوله بواسطة شهادة الصادق له بالعصمة ، وقول المفتي يفيد مدلوله بواسطة الإجماع الدال على وجوب قبوله بالنسبة إلى العامي .

قوله : " ويجوز التقليد في الفروع إجماعا " ، أي : بالإجماع ، " خلافا لبعض القدرية " من المعتزلة .

" لنا " على جواز التقليد فيه وجهان :

أحدهما : " الإجماع " من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - وغيرهم - [ ص: 653 ] سوى هذا المخالف - " على عدم تكليف العامة ذلك " - يعني الاجتهاد في الفروع - فإن الصحابة ومن بعدهم لم ينكروا على عامي اتبع مفتيا فيما أفتاه سواء ذكر له الدليل ، أو لم يذكره .

الوجه الثاني : أن " المخطئ فيها " ، أي : في الفروع " مثاب " ، لحديث عمرو بن العاص في الحاكم يخطئ فله أجر . وحينئذ لا محذور في تقليد العامي فيها ، لأنه في تقليده كالمجتهد في اجتهاده ، والمجتهد إذا أخطأ فيها لا محذور عليه ، فكذلك المقلد ، والجامع بينهما أن كل واحد منهما امتثل حكم الشرع بحسب طاقته وأهليته ; هذا بالتقليد ، وهذا بالاجتهاد .

قوله : " قالوا " ، أي : احتج الخصم على منع جواز التقليد للعامي ، بأن " الواجب " فيها " العلم أو ما أمكن من الظن " إذا تعذر العلم . " والحاصل " من الظن بالاجتهاد أكثر من الحاصل منه بالتقليد ، فيكون ذلك الظن الأكثر واجبا ، لأنه أقرب إلى الواجب الأصلي وهو العلم ، والأقرب إلى الواجب الأصلي واجب ، وإذا وجب الظن الأكثر وجب الاجتهاد الذي هو طريق إليه ، بناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، وإنما قلنا : إن الواجب الأصلي هو العلم لقوله - عز وجل - : ولا تقف ما ليس لك به علم [ الإسراء : 36 ] ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 33 ] . وإنما قلنا : إن العلم إذا تعذر ، وجب ما أمكن من الظن لقوله - عليه السلام - : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقياسا على من لم يجد إلا بعض صاع من فطرته [ ص: 654 ] يلزمه إخراجه ، ومن لم يجد إلا ما يكفي بعض طهارته ، لزمه استعماله ثم يتيمم ، ومن لم يجد في بلده مصرفا للزكاة أخرجها إلى أقرب البلاد إليه ، ونظائر ذلك كثيرة ، وباقي مقدمات الدليل ظاهرة .

قوله : " قلنا " ، أي : في جواب ما ذكروه أنه " فاسد الاعتبار لمخالفته النص والإجماع " ، والإشارة بالنص إلى قوله - عز وجل - : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ الأنبياء : 7 ] ، وقوله - عليه السلام - في قصة ذي الشجة المشهورة : ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وقوله - عليه السلام - في حديث ذهاب العلم : رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا مفهومه من أفتى بعلم يكون هاديا ، ومن كان هاديا ، جاز اتباعه ، والإشارة بالإجماع إلى إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - كما ذكر أول المسألة .

قوله : " ثم تكليفهم " ، أي : تكليف العامة " الاجتهاد يبطل المعايش ، ويوجب خراب الدنيا في طلب أهليته " ، أي أهلية الاجتهاد ، أي صيرورة العامة أهلا له لما يحتاج إليه من الفراغ والنظر ، ومجالسة العلماء ، وممارسة أنواع من العلوم ، " ولعل أكثرهم " - أي : أكثر العامة - لو تجرد لطلب أهلية الاجتهاد " لا يدركها " ، إذ قد وجد كثير ممن تجرد لتحصيل العلم فمات بعد طول المدة فيه على عاميته ، إذ المجتهدون لعزة منصب الاجتهاد كالملوك في [ ص: 655 ] الأعصار لا يوجد منهم إلا الواحد بعد الواحد ، فكانت " تتعطل الأحكام بالكلية " لو كلف العامة الاجتهاد ، لأنهم مادة العلماء ، فإذا تشاغلوا بطلب الاجتهاد ، انقطعت مادة العلماء وغيرهم ، وتعطلت الأحكام ، إذ العامي لا يقوم منه مجتهد ، وينقطع بتشاغله بالعلم مادة طلبه العلم ، فيشتغلون بضروراتهم عن طلبه ، فيخلو الوقت عمن يسترشد في أحكام الشرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية