صفحة جزء
[ ص: 656 ] ولا تقليد في ما علم كونه من الدين ضرورة ، كالأركان الخمسة لاشتراك الكل فيه ، ولا في الأحكام الأصولية كمعرفة الله تعالى ، ووحدانيته ، وصحة الرسالة ، ونحوها ، لظهور أدلتها في نفس كل عاقل ، وإن منع العامي عيه من التعبير عنها .

ولأن المقلد إن علم خطأ من قلده لم يجز أن يقلده ، أو أصابته فيم علمها إن كان لتقليده آخر ، فالكلام فيها كالأول ، أو باجتهاده فيه فليجتهد في المطلوب وليلغ واسطة التقليد . وفي هذه المسألة إشكال ، إذ العامي لا يستقل بدرك الدليل العقلي ، والفرق بينه وبين الشبه لاشتباههما ، لا سيما في زماننا هذا ; مع تفرق الآراء وكثرة الأهواء ، بل نحارير المتكلمين لا يستقلون بذلك ، فإذا منع من التقليد لزم أن لا يعتقد شيئا .


قوله : " ولا تقليد فيما علم كونه من الدين ضرورة كالأركان الخمسة " ، وهي الشهادتان ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج . " لاشتراك الكل " يعني العامي وغيره في العلم بذلك ، إذ التقليد يستدعي جهل المقلد بما قلد فيه ، وذلك مستحيل فيما علم بالضرورة ، والعلم بهذه الأركان بالضرورة الحاصلة عن التواتر والإجماع ، وهما مركبان من المعقول والمنقول كما سبق ، وليس المراد بالضرورة العقلية المحضة .

قوله : " ولا في الأحكام " ، أي : ولا يجوز التقليد في الأحكام " الأصولية " الكلية ، " كمعرفة الله تعالى ، ووحدانيته ، وصحة الرسالة ، ونحوها " من القطعيات الظاهرة الأدلة ، " لظهور أدلتها في نفس كل عاقل ، وإن منع العامي عيه " ، أي : قصور عبارته " من التعبير عنها " ، أي : عن تلك الأدلة الظاهرة ، [ ص: 657 ] فإن العامي إذا رأى هذا العالم باختلاف أجناسه وأنواعه وحركاته وما فيه من الحكمة والإتقان ، علم بالضرورة أن له صانعا ، وإن قصرت عبارته عن تقرير دليل الدور والتسلسل الدال على وجود الصانع ، وإذا رأى العالم جاريا على نظام الحكمة علم أن صانعه لا منازع له فيه ، ولا مشارك ، لما علم في مستقر العادة من أن الأشياء تفسد بتعدد المتنازعين فيها ، وإن لم يمكنه تقرير الدليل من قوله - عز وجل - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وإذا رأى إنسانا قد ادعى النبوة ، وظهر على يديه خارق للعادة بشرطه ; علم صدقه وإن لم يمكنه تقرير دليل النبوة ، ودفع الشبه عنه .

قوله : " ولأن المقلد " ، إلى آخره . هذا دليل آخر على امتناع التقليد في الأصول . وتقريره أن المقلد إما أن يعلم خطأ من قلده أو إصابته ، فإن علم خطأه ، " لم يجز أن يقلده " في الخطأ كما في الفروع وأولى ، وإن علم إصابته فإما أن يعلمها بتقليد آخر ، أو باجتهاده هو ، فإن علمها بتقليد شخص آخر قلنا : الكلام في هذا الشخص الآخر ، كالكلام في الأول وهو الذي قلدته ، فيقال له : بم علمت إصابة هذا الذي قلدته ، بتقليدك في ذلك غيرك ، أو باجتهادك ؟ ويتسلسل التعليل ، أو ينتهي إلى الاجتهاد ، وإن علم المقلد إصابة من قلده باجتهاده " فليجتهد في المطلوب وليلغ واسطة التقليد " ، فنقول له : إذا كان لك أهلية تعلم بها إصابة من تقلده من خطئه ، فاجتهد أنت فيما قلدت فيه ، وألغ واسطة التقليد ، أي : لا تجعل بينك وبين اعتقادك واسطة [ ص: 658 ] تقلدها ، لأن هذه الواسطة تكون لاغية لا فائدة فيها ، بل مع تقليدها إنما اعتمدت على اجتهادك . وهذا نحو من قول الفقهاء : الإقرار يلغي البينة ، وحضور شاهد الأصل يلغي اعتبار شاهد الفرع .

قوله : " وفي هذه المسألة إشكال " ، أي : تكليف العامة الاجتهاد في مسائل الأصول ، لأن العامي لا يستقل بإدراك " الدليل العقلي " ، وبالفرق " بينه وبين الشبه لاشتباههما " ، أي : لاشتباه الدليل والشبهة ، إذ الدليل ما لزم من ثبوته ثبوت المدلول ، والشبهة توهم ثبوت ما نصبت للدلالة عليه لمشابهتها الدليل في بعض ذلك ، وهي غير دالة على ثبوته في نفس الأمر فيحتاج الناظر في أحكام الأصول أن يكون عارفا بتقرير الأدلة العقلية ودفع الشبه عنها ، وذلك بعيد عن العامي ، بل ممتنع في حقه عادة " لا سيما في زماننا هذا مع تفرق الآراء ، وكثرة الأهواء ، بل نحارير المتكلمين " وشطارهم " لا يستقلون بذلك " وحيث الأمر كذلك ، " فإذا منع " يعني العامي " من التقليد لزم أن لا يعتقد شيئا " ، لأن الاعتقاد الاجتهادي متعذر عليه ، والتقليد ممنوع منه .

وحاصل هذا يرجع إلى منع عموم الدليل السابق على منع التقليد في الأصول لظهور أدلتها في نفس كل عاقل .

وتقريره : لا نسلم ذلك ، بل إنما هي ظاهرة في نفوس العلماء . أما العامة فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية