صفحة جزء
[ ص: 666 ] الثانية : يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد ، وفي وجوب تخير الأفضل قولان :

النافي : إجماع الصحابة على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول لأن الفضل قدر مشترك ، ولا عبرة بخاصة الأفضلية .

المثبت : الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب ، فإن سألهما واختلفا عليه فهل يلزمه متابعة الأفضل في دينه وعلمه كالمجتهد يتعارض عنده الدليلان ، أو يتخير ؟ فيه خلاف ، الظاهر الأول ، ويعرف الأفضل بالإخبار وإذعان المفضول له وتقديمه ، ونحوه من الأمارات المفيدة للظن ، فإن استويا عنده اتبع أيهما شاء .

وقيل : الأشد ، إذ الحق ثقيل مري ، والباطل خفيف وبي .

وقيل الأخف ، لقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر وما جعل عليكم في الدين من حرج ، لا ضرر ، بعثت بالحنيفية السمحة السهلة .

ويحتمل أن يسقطا لتعارضهما ، ويرجع إلى غيرهما إن وجد ، وإلا فإلى ما قبل السمع .


المسألة " الثانية : يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد " يعني من شاء منهم ، ولا يلزمه سؤال جميعهم . " وفي وجوب تخير الأفضل " . أي : هل يجب عليه أن يتخير أفضل المجتهدين فيستفتيه ؟ فيه " قولان " : بالنفي والإثبات " النافي " ، أي : احتج النافي لوجوب تخير الأفضل بوجهين : أحدهما : [ ص: 667 ] أن الصحابة أجمعوا " على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول " ، أي : أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم ، وذلك ينفي وجوب تخير الأفضل وإلا كان إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - خطأ وهو باطل .

الوجه الثاني : " أن الفضل قدر مشترك " بين الفاضل والأفضل ، فليكف في جواز التقليد " ولا عبرة بخاصة الأفضلية " .

قلت : ولأن الناس متفاوتون في رتبة الفضائل ، فما من فاضل إلا وثم من هو أفضل منه بدليل قوله - عز وجل - : وفوق كل ذي علم عليم [ يوسف : 76 ] ، فلو اعتبر الأفضل ، لانسد باب التقليد . ولقائل أن يقول : إنما يلزم ذلك إذا اعتبرنا أفضل المجتهدين مطلقا ، أما إذا قيدنا ذلك بمجتهدي البلد ، لم يلزم ، لأن الفاضل في كل بلد معروف مشهور مشار إليه بالأصابع .

قوله : " المثبت " ، أي : احتج المثبت لوجوب تخير الأفضل بأن " الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب " ، فيكون واجبا ، أما الأولى ، فظاهرة ، وأما الثانية ، فبناء على أن الأصل اعتبار العلم ، وإنما سقط في الشرعيات لتعذره ، فوجب الظن الأقرب إلى العلم كما سبق .

قلت : القولان متقاربان ، والأول أيسر ، والثاني أحوط .

قوله : " فإن سألهما واختلفا عليه " ، إلى آخره . أي : إن سأل المستفتي مجتهدين ، فأكثر ، فاختلفوا عليه في الجواب ، " فهل يلزمه متابعة [ ص: 668 ] الأفضل " منهم " في دينه وعلمه " ، " أو يتخير " فيأخذ بقول من شاء منهم ؟ " فيه خلاف " .

وجه اللزوم : أنه قد تعارض عند المستفتي قولان ، وأحدهما خطأ ، وليس أحدهما أولى بالرجحان لذاته ، فلزمه ترجيح أحد القولين برجحان أحد القائلين ، " كالمجتهد " إذا تعارض عنده دليلان ، استعمل الترجيح فيهما ، فأخذ بالأرجح منهما ، إذ قول المجتهد عند المقلد ، كقول الشارع عند المجتهد .

وجه التخيير : ما سبق من إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على تسويغ سؤال المقلد من شاء من المجتهدين ، ولأن العامي لا يعلم الأفضل بالحقيقة ، إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ، بل العامي يغتر بظواهر هيئة حسنة ، وطيلسان ، فربما اعتقد المفضول فاضلا .

قوله : " الظاهر الأول " ، أي : وجوب متابعة الأفضل ، لأن العامي وإن لم يكن أهلا لمعرفة الفاضل من المفضول ، لكن يكلف من ذلك وسعه بحسب اجتهاده ، كالمجتهد في الأدلة ، والخطأ بعد الاجتهاد مغتفر ، وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - محمول على ما إذا لم يختلف الجواب على المستفتي ، بل إذا جاء يستفتي ابتداء . أما عند الاختلاف ، فيجب تخير الأفضل . ولذلك قال الخرقي : وإذا اختلف اجتهاد رجلين ، لم يتبع أحدهما صاحبه ، ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه .

قوله : " ويعرف الأفضل " ، إلى آخره .

لما رجح وجوب تخير الأفضل احتاج أن يبين طرق معرفته ، وهي : إما إخبار العدل ، لأنه يفيد ظن أفضليته ، وهو كاف ، أو بإذعان " المفضول له وتقديمه " على نفسه في الأمور الدينية ، كالتلميذ مع شيخه لأنه يفيد القطع [ ص: 669 ] بها عادة ، أو بأمارات غير ذلك مما يفيد القطع ، أو الظن بذلك .

قوله : " فإن استويا عنده " ، أي : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة ، واختلفا عليه في الجواب ، ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها : يتبع " أيهما شاء " مخيرا لعدم المرجح .

الثاني : يأخذ بأشد القولين ، لأن " الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي " ، كما يروى في الأثر . وفي الحكمة : إذا ترددت بين أمرين ، فاجتنب أقربهما من هواك .

وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما وفي لفظ : أرشدهما . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ورواه أيضا النسائي وابن ماجه . فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد .

الثالث : يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة ، كقوله - عز وجل - : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ ص: 670 ] [ البقرة : 185 ] ، وقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله - عليه السلام - : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة .

وقال شيخنا المزني : من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه . أو كما قال .

قلت : وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

قلت : والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور : أن عمارا كان مكلفا محتاطا لنفسه ودينه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشرعا موسعا على الناس ، لئلا يحرجوا فينفروا ، كما صح أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة من غير خوف ولا سفر لئلا يحرج أمته . وقال : يسروا ولا تعسروا وقال لبعض [ ص: 671 ] أصحابه في سياق الإنكار عليه : إن فيكم منكرين منفرين .

قوله : " ويحتمل أن يسقطا " - يعني قولا المجتهدين إذا اختلفا يسقطان - لتعارضهما ، وعدم المرجح لأحدهما ، " ويرجع " المقلد " إلى غيرهما " من أقوال المجتهدين " إن وجد " غيرهما ، وإن لم يجد غيرهما ، رجع إلى " ما قبل السمع " ، وفيه الأقوال السابق ذكرها .

تنبيه : إذا اختلف على المقلد جواب المجتهدين ، وقلنا : يرجع إلى قول غيرهما ، فذلك الغير إن أفتاه بقول ثالث غير قوليهما ، مثل أن أفتاه أحدهما بأن الماء المستعمل في رفع الحدث طاهر ، وأفتاه الآخر أنه طهور ، فأفتاه الثالث بأنه نجس ; رجع إليه ، وكان مستند العمل قوله .

وإن أفتاه بأحد قولي الأولين بكماله أو بجزئه ، بأن فصل له ما أطلقاه مثل أن أفتاه أحدهما بأن الخمر لا تطهر ، وإن خللت بنقلها عن الشمس إلى الظل طهرت ، فهل تكون فتياه مستقلة باستناد عمل المقلد إليها ، أو تكون مؤكدة لما وافقها من فتيا المجتهدين الأولين ؟ فيه احتمالان : أصلهما تعارض التأكيد والتأسيس في الأدلة ، والتأسيس أولى ، فيترجح الاحتمال الأول ، وقد يرجح الثاني بأن الأصل وجوب العمل بقول أحد المجتهدين الأولين ، لكن [ ص: 672 ] سقط العمل به لعارض التعارض ، وبفتيا الثالث موافقا لأحدهما زال التعارض ، وظهر رجحان قوله ، فوجب أن يكون هو العمدة في العمل ، وقول المفتي الثالث مؤكدا له .

وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما إذا عمل بفتياهما ، ثم تبين أنهما ليسا أهلا للفتيا ، وتضمن العمل بالفتيا ما يوجب الضمان ، فإن الضمان يجب على المفتي إذا لم يكن أهلا للفتيا ، فإن جعلنا عمدة العمل فتيا الثالث استقل بالضمان كما استقل قوله بالعمل ، وإن جعلنا عمدته فتيا أحد الأولين وفتيا الثالث مرجحة ; كان الضمان عليهما جميعا ، والأشبه أنه عليهما نصفين لاشتراكهما في سبب الإتلاف ، ويحتمل أن يكون أثلاثا على الثالث ثلاثة حطا لرتبة المرجح عن رتبة الأصل المعتمد عليه . وضبطنا ذلك بالثلاث لاعتبار الشرع له كثيرا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية