صفحة جزء
[ ص: 673 ] القول في ترتيب الأدلة والترجيح

الترتيب : جعل كل واحد من شيئين فصاعدا في رتبته التي يستحقها بوجه ما ، فالإجماع مقدم على باقي أدلة الشرع ، لقطعيته وعصمته وأمنه من نسخ ، أو تأويل ، ثم الكتاب ، ويساويه متواتر السنة لقطعيتهما ، ثم خبر الواحد ، ثم القياس ، والتصرف في الأدلة من حيث العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، ونحوه سبق .

والترجيح : تقديم أحد طريقي الحكم لاختصاصه بقوة في الدلالة ، ورجحان الدليل عبارة عن كون الظن المستفاد منه أقوى ، والرجحان حقيقة في الأعيان الجوهرية ، وهو في المعاني مستعار .


" القول في ترتيب الأدلة والترجيح "

اعلم أن هذا من موضوع نظر المجتهد وضروراته ، لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة ، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر ، لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى ، فيكون كالمتيمم مع وجود الماء .

وقد يعرض للأدلة التعارض والتكافؤ ، فتصير بذلك كالمعدومة ، فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح ليعمل به ، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام .

فهذا الباب مما يتوقف عليه الاجتهاد توقف الشيء على جزئه ، أو شرطه .

قوله : " الترتيب : جعل كل واحد من شيئين فصاعدا في رتبته التي يستحقها بوجه ما " ، أي : بوجه من الوجوه .

[ ص: 674 ] اعلم أنه لما كان هذا الباب معقودا لترتيب الأدلة وترجيحها ، وجب الكشف عن حقيقة الترتيب والترجيح ما هي ، لأنهما شرطان في الاجتهاد ، والحكم عليهما بالشرطية يستدعي سبق تصور ماهيتهما ، إذ التصديق أبدا مسبوق بالتصور . ولما كان الترتيب مصدر رتب يرتب ترتيبا ; عرفناه بمصدر مثله وهو الجعل .

قوله : " جعل كل واحد من شيئين فصاعدا " ، لأن الترتيب قد يكون في شيئين ، وقد يكون في أشياء كثيرة كجماعة رجال متفاوتين في الأقدار يجلس كل منهم حيث يستحق بالنسبة إلى أصحابه .

قوله : " في رتبته " ، أي : في موضعه أو منزلته " التي يستحقها " ، أي : يستحق جعله فيها بوجه من الوجوه ، لأن أسباب الترتيب والتفاوت في المراتب متعددة ، فقد يستحق الشيء التقديم من جهة قوته أو قربه أو حسنه أو خاصية فيه . وقد يستحق الإنسان التقديم تارة لشجاعته ، وتارة لعلمه ، وتارة لجاهه ، وتارة لدينه ، وتارة لجماله ، وغير ذلك من الجهات . وقد ذكر الفقهاء ترتيب الأقارب في نفقاتهم وفطرتهم وولايتهم في النكاح وإرثهم باعتبار القرب والقوة على ما فصل في الفقه .

قوله : " فالإجماع مقدم على باقي أدلة الشرع " .

قد سبق أن أدلة الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وغيره من الأصول المختلف فيها مما ذكرناه أو لم نذكره ، والإجماع مقدم عليها جميعا لوجهين : [ ص: 675 ] أحدهما : كونه قاطعا معصوما من الخطأ بشهادة المعصوم له بذلك كما سبق في بابه ، بخلاف باقي الأدلة .

الثاني : كونه آمنا من النسخ والتأويل بخلاف باقي الأدلة ، فإن النسخ يلحقها والتأويل يتجه عليها . وقد سبق الدليل على أن النسخ لا يلحق الإجماع . وأما التأويل فإنه لا يلحق إلا ما كانت دلالته ظاهرة والإجماع قاطع فصار في عدم لحوق التأويل له كالنصوص في مدلولها لا تقبل التأويل .

فإن قيل : قد ذكرتم في مسألة أن المباح غير مأمور : أن الكعبي تأول الإجماع على ما ذكر هناك .

قلنا : حيث أضيف التأويل إلى الإجماع ، فإنما يرد على مورد الإجماع لا على ذات الإجماع ، والفرق بينهما ظاهر .

قوله : " ثم الكتاب ، ويساويه متواتر السنة لقطعيتهما " أي : ثم الكتاب مقدم في الدلالة بعد الإجماع ، ويساوي الكتاب في ذلك متواتر السنة ، لأنهما جميعا قاطعان من جهة المتن . ولذلك جاز نسخ كل واحد منهما بالآخر .

قوله : " ثم خبر الواحد " . يعني هو مقدم بعد الكتاب والسنة المتواترة ، " ثم القياس بعد خبر الواحد .

قوله : " والتصرف في الأدلة من حيث العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوه " من حمل المجمل على المبين ، وأشباه ذلك " سبق " في أبوابه .

والغرض من هذا الكلام أن المجتهد له وظائف ، وهي ترتيب الأدلة والتصرف فيها ، وترجيح بعضها على بعض عند التعارض ، وهذا نوع من [ ص: 676 ] التصرف فيها .

أما الترتيب ، فقد بينا أن المقدم من الأدلة الإجماع ، ثم الكتاب ثم متواتر السنة ، ثم خبر الواحد ، ثم القياس ، ثم باقي الأدلة على مراتبها في نظر المجتهد .

وأما التصرف فيها كحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيد ، والمجمل على المبين ، ونحو ذلك ; فقد ذكر في أبوابه ، وسمي هذا تصرفا ، لأن التصرف هو التنقل في الأزمنة والأحوال ، وهذا تنقل في أحوال الأدلة من حال إلى حال .

وأما الترجيح فنحن الآن ذاكروه إن شاء الله تعالى .

قوله : " والترجيح : تقديم أحد طريقي الحكم لاختصاصه بقوة في الدلالة ، ورجحان الدليل عبارة عن كون الظن المستفاد منه أقوى " .

اعلم أن الترجيح والرجحان قد يلتبسان . وقد أشرت إلى الفرق بينهما بتمييز كل واحد منهما منه برسم .

فالترجيح : فعل المرجح الناظر في الدليل ، وهو تقديم أحد الطريقين الصالحين للإفضاء إلى معرفة الحكم لاختصاص ذلك الطريق بقوة في الدلالة ، كما إذا تعارض الكتاب والإجماع في حكم ، والعام والخاص ، أو قياس العلة والشبه ، فكل واحد منهما طريق يصلح لأن يعرف به الحكم ، لكن الإجماع اختص بقوة على الكتاب من حيث الدلالة . وكذا الخاص على العام ، وقياس العلة على الشبه مقدم لذلك .

والرجحان صفة قائمة بالدليل ، أو مضافة إليه ، وهي كون الظن المستفاد [ ص: 677 ] منه أقوى من غيره ، كالمستفاد من قياس العلة بالنسبة إلى قياس الشبه ، ومن الخاص بالنسبة إلى العام ، فالترجيح فعل المرجح ، والرجحان صفة الدليل . ويظهر لك الفرق بينهما أيضا من جهة التصريف اللفظي ، فإنك تقول : رجحت الدليل ترجيحا ، فأنا مرجح ، والدليل مرجح - بفتح الجيم - وتقول : رجح الدليل رجحانا فهو راجح . ألا ترى أنك أسندت الترجيح إلى نفسك إسناد الفعل إلى الفاعل ، وأسندت الرجحان إلى الدليل ; كذلك كان الترجيح وصف المستدل ، والرجحان وصف الدليل . فهذه الطريقة التصريفية مفيدة في معرفة رسوم بعض الأشياء . ولما أهملها أو سها عنها بعض المتأخرين وهم في الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ . والفرق بينهما : أن دلالة اللفظ صفة له وهي كونه حيث يفيد مراد المتكلم به ، أو إفادته مراد المتكلم ، كأن يقول : عجبت من دلالة اللفظ ، ومن : إن دل اللفظ ، فإذا فسرتها بأن والفعل اللذين ينحل إليهما المصدر ، كان الفعل مسندا إلى اللفظ إسناد الفاعلية ، والدلالة باللفظ صفة للمتكلم وفعله ، وهي إفادة المتكلم من اللفظ ما أراد منه ، لأنك تقول : عجبت من دلالة فلان بلفظه ، ومن أن دل فلان بلفظه على كذا ، فيسند ذلك إلى فلان وهو المتكلم لا إلى اللفظ ، فافهم هذا .

قوله : " والرجحان حقيقة في الأعيان الجوهرية وهو في المعاني مستعار " .

يعني أن استعمال الرجحان حقيقة إنما هو في الجواهر والأجسام ، نحو : [ ص: 678 ] هذا الدينار أو الدرهم راجح على هذا ، لأن الرجحان من آثار الثقل والاعتماد ، وهو من خواص الجواهر .

أما استعماله في المعاني ، نحو : هذا الدليل ، أو المذهب راجح على هذا ، وهذا الرأي أرجح من ذاك ، فهو مجاز على جهة الاستعارة من رجحان الأجسام .

التالي السابق


الخدمات العلمية