صفحة جزء
[ ص: 690 ] فالترجيح اللفظي إما من جهة السند ، أو المتن ، أو القرينة :

أما الأول : فيقدم التواتر على الآحاد لقطعيته ; والأكثر رواة على الأقل ، ومنعه الحنفية كالشهادة ، وقد سبق جوابه ، والمسند على المرسل ، إلا مراسيل الصحابة ، فالأمر أسهل فيها لثبوت عدالتهم . كما سبق . والمرفوع على الموقوف ، والمتصل على المنقطع ، والمتفق عليه في ذلك على المختلف فيه ، ورواية المتقن والأتقن والضابط والأضبط والعالم والأعلم والورع والأورع ، والتقي والأتقى على غيرهم ، وصاحب القصة والملابس لها على غيره ، لاختصاصه بمزيد علم ، والرواية المتسقة المنتظمة على المضطربة ، والمتأخرة على المتقدمة ; ورواية متقدم الإسلام ومتأخره سيان ; وفي تقديم رواية الخلفاء الأربعة على غيرها روايتان ، فإن رجحت رجحت رواية أكابر الصحابة على غيرهم ، لاختصاصهم بمزيد خبرة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمنزلتهم ومكانهم منه .


قوله : " فالترجيح اللفظي " ، أي : الترجيح الواقع في الألفاظ ، إما من جهة متنها ، أو سندها ، أو قرائنها المحتفة بها .

" أما الأول " : يعني الترجيح من جهة السند ، " فيقدم التواتر على الآحاد لقطعيته " ، أي : لأن التواتر قاطع ، والآحاد ليس بقاطع ، والقاطع أولى بالتقديم بالضرورة ، كالإجماع على باقي الأدلة .

قوله : " والأكثر " أي : ويقدم الخبر الذي هو أكثر " رواة على " الذي هو [ ص: 691 ] أقل رواة ، " ومنعه الحنفية " أي : قالوا : لا يقدم بكثرة الرواة ، " كالشهادة " لا يقدم فيها الأكثر عددا على غيره .

قوله : " وقد سبق جوابه " . يعني عند ما حكي عن ابن الباقلاني من إنكار ترجيح الأدلة من الفرق بين الرواية والشهادة .

وتقريره ههنا أن كثرة العدد يفيد قوة الظن حتى يفضي إلى العلم ، بتزايده إلى حد التواتر ، وزيادة الظن يجب اتباعها ، إذ ما دونها مغمور بها ، فهو كالمعدوم معها .

واعلم أن هذا إنما هو محكي عن بعض الحنفية ، وأكثرهم فيما أحسب على خلافه ، لما ذكرنا . قال بعض الحنفية : الكرخي يحكي الترجيح بكثرة الرواة عن أصحابنا ، وقيل : هو مذهب أبي حنيفة .

قوله : " والمسند " ، أي : ويقدم " المسند على المرسل " ، لأنه مختلف في كونه حجة ، وما ذاك إلا لضعف لحقه تبين فيما سبق ، فتقديم المسند المتفق على كونه حجة أولى ، وكذلك كل مختلف فيه مع كل متفق عليه من جنسه ، فتقديم المتفق عليه واجب . ورجح عيسى بن أبان ، ومشايخ ما وراء النهر المرسل على المسند ، وسوى بينهما عبد الجبار .

قوله : " إلا مراسيل الصحابة فالأمر أسهل فيها لثبوت عدالتهم كما سبق " ، فيجوز أن يقدم على المسند ، أو يعارضه ، وينتظر المرجح .

قلت : وهذا على ما فيه إنما هو بالنسبة إلى من بعد الصحابة . أما في زمن الصحابة ; فإذا تعارض المسند والمرسل بأن قال الصحابي : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا ، فقال صحابي آخر : حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ; [ ص: 692 ] كان المسند متعين التقديم ، كحديث أبي هريرة مع حديث أم سلمة فيمن أصبح جنبا ، وحديث ابن عباس مع حديث غيره في ربا النسيئة . وقد سبق ذلك .

قوله : " والمرفوع " ، أي : ويقدم المرفوع وهو المحكي بالسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " على الموقوف " الذي لا يتجاوز به الصحابي ، لأن الأصل عدم رفعه ، وثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحجة في قوله - عليه الصلاة والسلام - دون غيره .

" والمتصل " يقدم " على المنقطع " ، لأن الاتصال صفة كمال في الحديث توجب زيادة ظن ، والانقطاع صفة نقص وعلة توجب نقص الظن ، ولأن المنقطع نوع من المرسل كما سبق ، وهو مختلف فيه ، فالأخذ بالمتفق عليه متعين .

قوله : " والمتفق عليه في ذلك على المختلف فيه " أي : يقدم المتفق عليه في الصفات المذكورة على المختلف في وجودها فيه ، فيقدم المتفق على إسناده على المختلف في إسناده ، والمتفق على رفعه على المختلف في رفعه ، والمتفق على اتصاله على المختلف في اتصاله ، لأن الاتفاق على الشيء يوجب له قوة ، ويدل على ثبوته وتمكنه في بابه ، والاختلاف فيه يوجب له ضعفا ، ويدل على تزلزله في بابه ما لم يقم البرهان القاطع على ثبوته ، فيكون المخالف حينئذ معاندا ، كاليهود في نبوة عيسى ، وهم والنصارى في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأشباه ذلك .

[ ص: 693 ]

قوله : " ورواية المتقن والأتقن ، والضابط والأضبط ، والعالم والأعلم ، والورع والأورع ، والتقي والأتقى على غيرهم " .

اعلم أن هذا واضح ، لكن نزيده إيضاحا ، وذلك أن كل شخصين اشتركا في صفة ، أو فعل ، وتفاوتا فيهما بالكمية ، أو الكيفية ، كانا جميعا مشتركين في اشتقاق اسم الفاعل لهما من تلك الصفة ، أو ذلك الفعل ، واختص الزائد منهما باشتقاق أفعل التفضيل له منهما ، فيقال لكل واحد من المشتركين في الإتقان : متقن ، وللزائد فيه : أتقن . وكذلك سائر الصفات .

فنقول في الصورة المذكورة : تقدم رواية المتقن على غير المتقن ، ورواية الأتقن على غير الأتقن ; وإن كان متقنا ، لأن نسبة المتقن إلى الأتقن كنسبة الفاضل إلى الأفضل ، وهو مترجح كما سبق .

وتقدم رواية الضابط على غير الضابط ، ورواية الأضبط على غير الأضبط ، ورواية العالم على رواية غير العالم ; كرواية فقهاء الصحابة مثل علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبي ، وزيد بن ثابت ونحوهم ، على من لم يشتهر بالفقه والعلم منهم - رضي الله عنهم - ، وهو كثير . وكذلك تقدم رواية الأئمة الأربعة ونحوهم من فقهاء الأئمة على غيرهم ممن ليس مشهورا بالفقه منهم .

وتقدم رواية الأعلم على غير الأعلم وإن كان عالما كرواية ابن مسعود على رواية أبي موسى ، فإن ابن مسعود كان أعلم بلا شك . ولهذا وهم أبو [ ص: 694 ] موسى في غير قضية ، ويصيب فيه ابن مسعود ، فيقول أبو موسى : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .

وتقدم رواية الورع على رواية غير الورع ، ورواية الأورع على رواية غير الأورع ، ورواية التقي ، أي : ذي التقوى على غير التقي ، ورواية الأتقى على غير الأتقى ، وذلك لأن أصل هذه الصفات والزيادة فيها يوجب زيادة الظن بالنسبة إلى عدمه ، فيجب اعتباره ، كما في الخبر المستفيض على الآحاد .

قوله : " وصاحب القصة " ، أي : وتقدم رواية صاحب القصة " والملابس لها على غيره ، لاختصاصه بمزيد علم " يوجب إصابته .

مثال رواية صاحب القصة حديث ميمونة - رضي الله عنها - : " تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال " يقدم على حديث ابن عباس : " تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم " .

ومثال رواية الملابس ، أي : المباشر للقصة : حديث أبي رافع : " تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ، وكنت السفير بينهما " ; يقدم على حديث [ ص: 695 ] ابن عباس المذكور . وقد أوضحت هذه القصة ومأخذها في " مختصر الترمذي " .

قوله : " والرواية " . أي : وتقدم الرواية " المتسقة المنتظمة على المضطربة " ، لأن اتساق الرواية وانتظامها يدل على ضبطها والعناية بها ، واضطرابها يدل على تزلزلها وقلة الاهتمام بها حتى اضطربت ، والاتساق : الانتظام . ذكره الجوهري ، وانتظام الرواية : هو ارتباط بعض ألفاظها ببعض ، ووفاء الألفاظ بالمعنى من غير نقص مخل ، ولا زيادة مملة ، واضطرابها تنافر ألفاظها ، واختلافها بالزيادة والنقص ، كحديث : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، وحديث رافع بن خديج في المخابرة ونحوهما وسبب وقوع الاضطراب في السنن الرواية بالمعنى في أسباب أخر .

قوله : " والمتأخرة " ، أي : وتقدم الرواية المتأخرة " على المتقدمة " ، كقول الراوي : كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار ، [ ص: 696 ] وكرواية أبي هريرة وأم حبيبة وبسرة في نقض الوضوء بمس الذكر على رواية طلق بن علي فيه ، لأنها متقدمة . وذلك لأن المتأخرة تدل على نسخ المتقدمة ، كقول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : " ورواية متقدم الإسلام ومتأخره سيان " ، أي : لا ترجيح بينهما ، لأنهما جميعا من الصحابة ، وتفاوتهما بتقدم الإسلام وتأخره إنما يوجب رجحانا في الفضيلة ، لا في قبول الرواية وقوتها وضعفها ، وذكر الآمدي الترجيح بذلك .

قلت : نظر إلى مطلق الرجحان في الفضيلة ، ولأنها جهة يقدم بها في إمامة الصلاة ، فقدم بها في قبول الرواية ، كالعلم ، والتقوى ، والعدالة .

قلت : والتوجيه المؤثر المناسب لذلك أن متقدم الإسلام أثبت إيمانا وأرجح في التقوى والورع لزيادة تفكره في قوارع القرآن وزواجره ، وذلك يقتضي توفر الدواعي على العناية بضبط الرواية ، والتحري في تحملها وأدائها ، وذلك من مثارات زيادة الظن .

قوله : " وفي تقديم رواية الخلفاء الأربعة " يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - " على غيرها روايتان " :

إحداهما : لا تقدم ، لأنهم وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - في مناط الرواية - وهو الصحبة - سواء .

[ ص: 697 ] والثانية : تقدم لزيادة فضيلتهم ، وتيقظهم ، وتنبههم للأحكام ، واحتياطهم لها ، ولما ذكرنا في تقديم رواية الأقدم إسلاما .

قلت : ولعل الخلاف في تقديم روايتهم مبني على الخلاف في إجماعهم : هل هو حجة أم لا ؟ فإن لم يكن مبنيا عليه ، فهو شبيه به .

قوله : " فإن رجحت " - يعني رواية الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - " رجحت رواية أكابر الصحابة على غيرهم " . يعني على رواية أصاغرهم " لاختصاصهم بمزيد خبرة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لمنزلتهم " منه " ومكانهم " عنده ، وملازمتهم له .

قلت : ولا يظهر وجه بناء هذا على رجحان رواية الخلفاء ، بل رواية أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - محتملة للخلاف مطلقا ، كرواية الأقدم إسلاما ، سواء رجحت رواية الخلفاء أو لا ، والأشبه ترجيح رواية الأكابر ، والفرق بينهم وبين الأصاغر يعرف من كتب الطبقات ، وقد قسم الحاكم أبو عبد الله الصحابة إلى ثلاث عشرة طبقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية