صفحة جزء
[ ص: 577 ]

وقد قيل في حمل : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل على صوم القضاء والنذر : إنه من هذا القبيل ، لوجوبهما بسبب عارض ، فهو كالمكاتبة في حديث النكاح . والصحيح أنهما ليسا مثلها في الندرة والقلة . فقصر مضمون الحديث عن صوم رمضان ، يحتاج إلى دليل قوي ، فحصل من هذا ، أن إخراج النادر قريب ، والقصر عليه ممتنع ، وبينهما درجات متفاوتة ، بعدا وقربا .

والمجمل يأتي ذكره إن شاء الله تعالى .


قوله : " وقد قيل في حمل : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل على صوم القضاء " ، إلى آخره .

معنى هذا : أن الحنفية حملوا قوله عليه السلام : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل على صوم القضاء والنذر ، فقالوا : يجب تبييت النية لهما ، دون شهر رمضان ، والفرق أن زمن رمضان متعين لصيامه فرضا ، بخلاف القضاء والنذر ، فقال بعض الناس : إن هذا التأويل في البعد والندرة ، كتأويل حديث النكاح بغير ولي على المكاتبة ، وذلك لأن قوله : " لا صيام " صيغة عموم ، فيتناول الواجب والتطوع ، فإذا خص منها التطوع بدليل جاز ، وكان قريبا ، لقلة التطوع بالإضافة إلى أصناف الصيام . أما إذا قصر هذا العموم على القضاء والنذر ، كان بعيدا نادرا ، وذلك لأن النفل يخرج من العموم باتفاق ، وصوم رمضان الذي هو أعلى الصيام رتبة عند الخصم متعين ، فلم يبق إلا القضاء ، والنذر ، وصوم الكفارات ، وهي واجبة بأسباب عارضة ، فهو لذلك نادر ، كالمكاتبة في حديث النكاح ، والمعروف من عادات [ ص: 578 ] الناس - العرب وغيرهم - أنهم يهتمون بما هو الأصل والأهم ، فيضمنونه كلامهم ، ويريدونه منه ، كرمضان من عموم الصيام ، والحرة من عموم : " أيما امرأة أنكحت " . أما إرادة الأمور العارضة ، وقصر الكلام على إرادتها دون الأمور الأصلية ، فهو مما تأباه الأفهام ، ولم تجر به عادة أهل اللغة في الكلام .

هذا تقرير القول المذكور في قولنا : وقد قيل .

قوله : " والصحيح أنهما ليسا مثلها في الندرة والقلة " .

أي الصحيح أن القضاء والنذر ، اللذين قصر عليهما حديث : لا صيام لمن لم يبيت ليسا في الندرة والقلة ، كالمكاتبة التي قصر عليها حديث : أيما امرأة أنكحت نفسها لأن العموم هناك أقوى من العموم هنا ، والمكاتبة هناك أقل بالنسبة إلى العموم من القضاء والنذر هنا .

أما أن العموم هناك أقوى ، فلما ذكرنا من الوجوه الثلاثة في قوته وتأكده ، وهو متفق عليه عند أكثر الناس .

وأما صيغة " لا صيام " ونحوها ، فالخلاف فيها مشهور متجه ، لأنها تحتمل نفي كمال الصوم لا صحته ، وبتقدير نفي صحته ، فأصناف الصوم خمسة ، قد قصر على ثلاثة منها : وهي صوم القضاء ، والنذر ، والكفارات . ولم يبق إلا التطوع [ ص: 579 ] وصوم رمضان ، وليس نسبة ثلاثة إلى خمسة ، كنسبة نوع المكاتبة إلى جنس النساء .

قوله : " فقصر مضمون الحديث عن صوم رمضان يحتاج إلى دليل قوي " .

مضمون الحديث المذكور وجوب تبييت النية لكل صيام ، وقولهم : لا يجب تبييت النية لصوم رمضان ، قصر لمضمون الحديث عن صوم رمضان ، أي : حبس له عنه حتى لا يتناوله ، فيحتاج ذلك إلى دليل قوي ، لكون صوم رمضان أسبق إلى الفهم من إطلاق لفظ الصيام فيه ، لأنه آكد الصوم وأعلى رتبة ، ولا يبطل بالكلية ، كبطلان قصر حديث النكاح على المكاتبة .

قوله : " فحصل من هذا " ، إلى آخره .

أي : فحصل من هذا الكلام في أمثلة التأويل والتخصيص المذكورة أن إخراج النادر من العام قريب ، كإخراج المكاتبة من عموم حديث النكاح كما سبق بيانه ، وقصر العموم على النادر ممتنع ، كقصر حديث النكاح على المكاتبة ، وبينهما ، أي : بين هذين القسمين درجات متفاوتة في البعد والقرب ، كقصر حديث الصيام على النذر والقضاء ، فإنه دون إخراج النادر من العام في القرب ، ودون قصر حديث النكاح على المكاتبة في البعد .

وبالجملة : فالصور تتفاوت في القلة والكثرة فتتفاوت بالنسبة إلى إخراجها من العموم ، وقصره عليها في البعد والقرب . [ ص: 580 ]

قوله : " والمجمل يأتي ذكره إن شاء الله تعالى " .

يعني أنا ذكرنا في أول هذا البحث ، أن الكلام نص وظاهر ومجمل ، ولم نتكلم إلا على النص والظاهر ، لقرب مباحثهما من مباحث مبادئ اللغة المذكورة في هذا البحث . وأخرت الكلام في المجمل إلى موضعه في عادة الأصوليين ، وهو بعد المطلق والمقيد ، لأنه أشبه به . والشيخ أبو محمد استوعب الكلام عليه مع إخوته في باب تقاسيم الأسماء ، وهو باب اللغات ، وفي كل خير ، والله تعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

التالي السابق


الخدمات العلمية