صفحة جزء
[ ص: 247 ]

الفصل الثالث

في أحكام التكليف

وهي خمسة كما سيأتي قسمتها . والحكم ، قيل : خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير . وقيل : أو الوضع . والأولى أن يقال : مقتضى خطاب الشرع ، فلا يرد قول المعتزلة : الخطاب قديم ، فكيف يعلل بالعلل الحادثة ؟ وأيضا فإن نظم قوله تعالى : أقيموا الصلاة ولا تقربوا الزنا ليس هو الحكم قطعا ، بل مقتضاه ، وهو وجوب الصلاة ، وتحريم الزنى عند استدعاء الشرع منا تنجيز التكليف .


أحكام التكليف

قوله : " الفصل الثالث في أحكام التكليف ، وهي خمسة ، كما سيأتي قسمتها " .

الأحكام : جمع حكم . قال الجوهري : الحكم مصدر قولك : حكم بينهم يحكم حكما ، إذا قضى . قلت : ومعناه في اللغة : المنع ، وإليه ترجع تراكيب مادة " ح ك م " ، أو أكثرها ، فمن ذلك قولك : حكمت الرجل تحكيما ، إذا منعته مما أراد ، وحكمت السفيه - بالتخفيف - وأحكمته ، إذا أخذت على يده .

أنشد الجوهري وغيره لجرير :


أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

وسمي القاضي حاكما ، لمنعه الخصوم من التظالم . [ ص: 248 ]

أما بيان حقيقة الحكم في الاصطلاح ، فقد ذكرت بعد . وسميت هذه المعاني ، نحو : الوجوب والحظر وغيرهما أحكاما ، لأن معنى المنع موجود فيها ، إذ حقيقة الوجوب مركبة من استدعاء الفعل والمنع من الترك ، والحظر مركب من استدعاء الترك والمنع من الفعل .

أما الندب والكراهة ، فمعنى المنع فيهما موجود ، لكنه أضعف منه في الوجوب والحظر ، ولهذا ، أو نحوه ، اختلف في تناول التكليف لهما لعدم المشقة ، ووجه المنع فيهما .

أما الندب ، فهو ممنوع من تركه بالإضافة إلى طلب ثوابه المرتب عليه ، إذ ليس ثواب من ترك المندوبات كثواب من فعلها ، وحافظ عليها ، عملا بقوله تعالى : أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر : 9 ] ، وأمثال ذلك كثير وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - : ثوابك على قدر ‏نصبك . والإجماع على هذا ، وهو من [ ص: 249 ] ضروريات الشريعة إلا ما ندر من إلحاق بعض القاصرين بالمجتهدين بحسب السابقة ، والسعادة اللاحقة ، ومع ذلك ، فلا بد من سبب ، أو شبهة سبب . فحينئذ نقول : العقل والشرع يمنعان من ترك المندوبات استصلاحا ونظرا ، لا عزما وجزما ، وإذا ثبت معنى المنع في فعل المندوب ، فافهم مثله في ترك المكروه ، لأنهما متقابلان وسيان في الوزن ، فكما يمنع المكلف المفطر من ترك السواك منعا غير جازم ، كذلك يمنع الصائم من السواك بعد الزوال عند القائلين به منعا غير جازم ، لأن ترك السواك للأول مكروه ، وللثاني مندوب ، فبالنظر إلى وجود مطلق معنى المنع في الندب والكراهة ، لحقا بالوجوب والحظر ، في تناول التكليف لهما ، وبالنظر إلى [ أن ] المنع فيهما اصطلاح لا عزم وجزم قصرا ، فلم يتناولهما التكليف .

وإضافة الأحكام إلى التكليف ، في قولنا : " أحكام التكليف " هي من باب إضافة الشيء إلى سببه ، لأن التكليف سبب ثبوت الأحكام الخمسة المذكورة في حقنا ، لأنا لما ألزمنا من جهة الشرع ترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، ثبت في حقنا تحريم المحظورات ، ووجوب الواجبات . [ ص: 250 ]

قوله : " والحكم ، قيل : خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين ، بالاقتضاء أو التخيير " .

أقول : إنما قلت : قيل ، لما ذكرت بعد ، من أن الأولى أن يقال : الحكم ، مقتضى خطاب الشرع ، والكلام الآن على التعريف المذكور ، وهو الذي ذكره أكثر المتأخرين . والكلام أولا في حقائق ألفاظه لغة ، ثم في بيان حقيقته واحترازاته .

أما حقائق ألفاظه ، فالحكم قد سبق بيانه لغة .

وأما الخطاب ، فهو في اللغة : مصدر خاطبه بالكلام يخاطبه مخاطبة وخطابا ، وهو من أبنية المفاعلة ، نحو ضاربه مضاربة وضرابا ، وليس الخطاب هو الكلام والمكالمة ، وهي توجه الكلام من كل واحد منهما إلى صاحبه ، لأنا نقول خاطبه بالكلام ، فلو كان الخطاب هو الكلام ، لكان التقدير : كالمه أو كلمه بالكلام ، فيكون تكرارا أو تأكيدا ، والأصل ، خلافه . نعم ، استعمل الخطاب في الاصطلاح بمعنى الكلام ، فصار حقيقة اصطلاحية .

والأفعال : جمع فعل ، وهو في اللغة مشهور ، ولذلك لم يذكر الجوهري حقيقته ، بل تصاريف مادته .

أما في التحقيق ، فهو معنى ذات تشمل ما صدر من الأفعال عن الله سبحانه وتعالى ، وعن غيره .

وقولنا : اختيارا واضطرارا ، ليتناول فعل المرتعش من حركة أو سكون ، فإنها أفعال اضطرارية . [ ص: 251 ]

والاقتضاء : افتعال ، من قضى يقضي : إذا طلب وحكم ، فالاقتضاء : هو الطلب ، ويستعمل في العقلاء نحو : اقتضى زيد من عمرو الدين ، أي : طلبه ، واقتضى منه أن يخدمه ، ونحو ذلك ، وفي غير العقلاء ، نحو قولنا : العلة تقتضي المعلول ، وهذا الكلام يقتضي كذا ، أي يطلب المعنى الفلاني ، وإن كان قد صار في الاصطلاح يشعر بغير ذلك .

والتخيير : تفعيل من خار يخير ، واختار يختار ، وهو رد العاقل إلى اختياره ، إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل . هذا الكلام عليه لغة .

أما بيان حقيقته وما فيه من الاحترازات ، فقولهم : خطاب الله ، أي : كلامه ، وقد عدل القرافي في " شرح التنقيح " عن لفظ : خطاب الله إلى لفظ : كلام الله ، قال : لأن الخطاب والمخاطبة لغة ، إنما يكون بين اثنين ، وحكم الله تعالى قديم ، فلا يصح فيه الخطاب ، وإنما يكون في الحادث ، وكان هذا منه بناء على أمرين : أحدهما : أن كلام الله معنى قائم بالنفس عنده ، فلا يظهر منه لغيره حتى يكون خطابا .

والثاني : أن الله سبحانه وتعالى قديم ، فلا يصح أن يكون معه في الأزل من يخاطبه .

والأول - وهو البناء على الكلام النفسي - هو منازع فيه ، كما سيأتي في اللغات إن شاء الله سبحانه وتعالى ، وأما الثاني : فالخطب فيه يسير ، إذ لا يلزم من مخاطبة [ ص: 252 ] الله سبحانه وخطابه لخلقه ، أن يكونوا معه أزلا ، إذ قد اتفقنا والأشاعرة على جواز تكليف المعدوم ، بمعنى توجه الأمر والنهي إليه إذا وجد ، فكذا يتوجه الخطاب إليه إذا وجد .

وقد بينا أن الخطاب صار في الاصطلاح بمعنى الكلام . نعم ، العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ الكلام يكون من باب أولى .

وعدل الآمدي عن خطاب الله إلى " خطاب الشارع " كأنه يريد أن يشمل كلام الله سبحانه ، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهو عند التحقيق أولى . وإن أمكن أن يقال : إن خطاب الرسول هو خطاب الله سبحانه وتعالى في المعنى ، لأنه مستمد منه ، ومبين له .

وزاد القرافي صفة القديم ، فقال : " كلام الله قديم " احترازا من ألفاظ القرآن ، التي هي أدلة الحكم ، لا نفس الحكم ، بناء على أصلهم في خلق القرآن ، وأن الكلام القديم الذي هو الحكم ، معنى قائم بالنفس ، فلو لم يقل : القديم ، لدخلت ألفاظ القرآن في حد الحكم ، وليست هي الحكم ، بل أدلة الحكم ، فكان يتحد الدليل والمدلول ، وهذا أصل منازع فيه .

وقولهم : " المتعلق بأفعال المكلفين " احتراز مما تعلق بذوات المكلفين ، نحو قوله سبحانه وتعالى : والله خلقكم [ النحل : 70 ] ، ومن آياته أن خلقكم من تراب [ الروم : 20 ] ، واحتراز مما تعلق بأفعال غير المكلفين ، كالجمادات ونحوها ، كقوله سبحانه وتعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ النمل : 88 ] ، ويوم نسير الجبال [ الكهف : 47 ] .

فبقولهم : المتعلق بأفعال ، خرج المتعلق بذوات المكلفين . [ ص: 253 ]

وبقولهم : المكلفين ، خرج المتعلق بأفعال غير المكلفين .

وقولهم : " بالاقتضاء " احتراز من مثل قوله سبحانه وتعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [ الكهف : 50 ] ، وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية [ البقرة : 58 ] ، وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين [ النحل : 51 ] ، ونحو ذلك ، فإنه خطاب الله متعلق بأفعال المكلفين ، وليس بحكم ، لأنه ليس على جهة الطلب والاقتضاء ، بل هو خبر عن تكليف سابق أو حاضر ، إذ قوله سبحانه وتعالى : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين [ النحل : 51 ] ، هو إخبار حالي للمخاطبين بنهيه لهم عن الشرك . وقولهم : " أو التخيير " تكميل للحد ، ليدخل فيه المباح ، إذ الاقتضاء لم يتناول غير أربعة أقسام ، وهي الواجب والمندوب والمحظور والمكروه ، فلو اقتصر ، لكان ناقصا . فبقولهم : أو التخيير ، كمل بدخول المباح فيه .

ويورد المتعنتون على مثل قولنا : أو التخيير ، أن " أو " للشك والترديد ، والمراد من الحدود الكشف والتحقيق ، وهما متنافيان .

وأجيب عنه ، بأن " أو " لها معان تذكر إن شاء الله تعالى ، في مسألة الواجب المخير ، منها التنويع ، نحو : الإنسان إما ذكر أو أنثى ، والعدد : إما زوج أو فرد ، أي : هو متنوع إلى هذين النوعين ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، أي : الحكم له نوعان : اقتضاء وتخيير ، والتنويع ، هو نفس الكشف والتحقيق ، لا مناف له . وأجاب بعض الفضلاء عن مثل هذا ، أنه حكم بالترديد ، لا ترديد في [ ص: 254 ] الحكم ، والشك ، هو الثاني دون الأول ، لأنه جزم لا شك .

فإن قيل : إذا كان لـ " أو " معان ، فهي مشتركة ، والمشتركات لا تصلح في الحدود لإجمالها .

قلنا : لا يلزم من الاشتراك الإجمال ، لجواز تعيين المراد بقرينة أو غيرها ، فيزول الإجمال ، فيجوز ، وقد سبق هذا ونحوه عند تعريف الأصل : بـ : منه الشيء .

قوله : " وقيل : أو الوضع " أي : قال بعض الأصوليين : الحكم خطاب الله ، المتعلق بأفعال المكلفين ، بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع . وأراد بذلك دخول الأحكام الثابتة بأسباب وضعية ، وهو المسمى خطاب الوضع والإخبار ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وذلك نحو صحة العقد وفساده ، وقضاء العبادة وأدائها ، ونصب الأسباب والشروط والموانع علامات على أحكامها ، فإن هذه كلها أحكام شرعية ، وليست خطابا اقتضاء ولا تخييرا ، فإذا قيل : أو الوضع ، دخلت تلك الأحكام في الحد المذكور فكمل ، والعذر لمن لم يقل : أو الوضع ، هو أن الحكم الشرعي ضربان : خطابي ، أي : ثابت بالخطاب ، ووضعي إخباري ، أي : ثابت بالوضع والإخبار ، وغرضه بالتعريف هاهنا الحكم الخطابي لا الوضعي ، إذ ذلك يعقد له باب مستقل يذكر فيه .

ومأخذ الخلاف بينهما : أن أحدهما يريد تعريف الحكم الشرعي الأصلي ، وهو الخطابي . أما الوضعي ، فهو على خلاف الأصل ، لضرورة قد بيناها عند ذكر خطاب الوضع . ولذلك قلنا فيما سبق : إن الأحكام السببية على خلاف الأصل . [ ص: 255 ]

قوله : " والأولى أن يقال : مقتضى خطاب الشرع " المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا ، فقولنا : خطاب الشرع ، ليتناول الكتاب والسنة ، كما حكيناه عن الآمدي ، وهو أولى .

وأما قولنا : مقتضى الخطاب ، فقد بين فائدته بقوله : " فلا يرد قول المعتزلة الخطاب قديم " إلى آخره .

وفائدته من وجهين :

أحدهما : أن المعتزلة أوردوا على تعريف الحكم بالخطاب أسئلة :

منها : أن الخطاب ، هو كلام الله تعالى وهو قديم عندكم . والحكم يعلل بالعلل الحادثة ، نحو قولنا : حلت المرأة بالنكاح ، وحرمت بالطلاق ، والمعلل بالحوادث حادث ، فيلزم أن كلام الله تعالى الذي هو الحكم عندكم حادث .

السؤال الثاني : أن الحكم صفة فعل المكلف ، لأنا نقول : هذا فعل حرام ، وهذا فعل واجب ، وصفة الحادث تكون حادثة ، فإذا قلتم : إن الحكم هو كلام الله تعالى ، وقد ثبت أنه وصف للفعل الحادث ، لزم أن يكون كلام الله تعالى حادثا .

السؤال الثالث : إن الأحكام مسبوقة بالعدم ، إذ يقال : حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالا ، وحرمت بالطلاق بعد أن لم تكن حراما ، وحرم العصير بالتخمير ، وحل بالانقلاب ، بعد أن لم يكن كذلك ، والمسبوق بالعدم حادث ، فاحتاج الذين عرفوا الحكم بالخطاب إلى الجواب عن هذه الأسئلة . [ ص: 256 ]

فأجابوا عن الأول - وهو أن الحكم يعلل بالحوادث فيكون حادثا - بأن قالوا : علل الشرع معرفات لا مؤثرات ، والمعرف للشيء يجوز تأخيره عنه ، كما عرف الله سبحانه وتعالى بصنعته ، وإن كانت متأخرة عنه .

وأجابوا عن الثاني - وهو أن الحكم صفة فعل المكلف ، وصفة الحادث حادثة - بأن قالوا : إنما تكون صفة الحادث حادثة إذا قامت به ، كاللون والطعم ونحوهما بالجسم . أما إذا لم تقم الصفة بالموصوف ، فلا يلزم أن تكون حادثة ، كقولنا في قيام الساعة : إنه معلوم ومذكور ، أي : بعلم وذكر قائم بنا لا به ، وتعلق الأحكام بأفعال المكلفين من هذا القبيل ، لأن الأفعال قائمة بالمكلفين ، والأحكام قائمة بذات الله سبحانه وتعالى معنى أو عبارة ، كما إذا قال السيد لعبده : أسرج الدابة ، فإن الإسراج واجب عليه بإيجاب قام بالسيد .

وأجابوا عن الثالث - وهو أن الأحكام مسبوقة بالعدم فتكون حادثة - بأن قالوا : ليس المراد بقولنا : حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالا ، أن الحل وجد بعد أن لم يكن ، حتى يلزم حدوث الحكم ، بل المراد أن القائم بذات الله تعالى - وهو الحل أو الإحلال - تعلق في الأزل بوجود حالة ، وهي حالة اجتماع شرائط النكاح وانتفاء موانعه ، فتلك الحالة هي التي وجدت بعد أن لم توجد ، لا الحكم .

قلت : فإذا قلنا : الحكم مقتضى خطاب الشرع ، لم ترد علينا هذه الأسئلة ، [ ص: 257 ] لأنا لا نقول : إن الحكم المعلل بالحوادث هو نفس كلام الله ، بل هو مقتضى كلام الله سبحانه وتعالى ، وفرق بين الكلام ومقتضاه ، إذ الكلام إما معنى نفسي ، أو قول دال . ومقتضى الكلام هو مدلول ذلك القول ، والمطلوب به . وفيما ذكره الأولون من الجواب عن أسئلة المعتزلة ، نوع تكلف ولعلهم إذا حوققوا عليه ربما تعذر عليهم تمشيته ، وإنما ذكرت في المختصر من أسئلة المعتزلة واحدا على جهة ضرب المثال لما يرد على تعريف الحكم بالخطاب ، وهاهنا زدت السؤالين الآخرين وجوابهما تكميلا لفائدة الناظر .

الفائدة الثانية : قولنا : مقتضى الخطاب هو أنا نعلم بالضرورة أن نظم قوله تعالى : وأقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] ، في الأمر ، ولا تقربوا الزنا [ الإسراء : 32 ] ، في النهي ، ليس هو الحكم قطعا ، وإنما الحكم هو مقتضى هذه الصيغ المنظومة ومدلولها ، وهو وجوب الصلاة المستفاد من قوله تعالى : وأقيموا الصلاة ، وتحريم الزنى المستفاد من قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا ، وإذا كنا نعلم قطعا أن نفس الكلام اللفظي ، ليس هو الحكم ، فلا معنى لتعريف الحكم بالخطاب .

وقولنا : " عند استدعاء الشرع منا تنجيز التكليف " أي : الحكم مقتضى الخطاب ، وهو الوجوب والتحريم ، عند أمر الشارع لنا بإيقاع الواجبات ، [ ص: 258 ] واجتناب المحرمات .

وهذا احتراز من قول قائل يقول : الذي فررتم منه في تعريف الحكم بالخطاب ، هو لازم لكم في تعريفه بمقتضى الخطاب . وبيانه أن مقتضى الكلام قديم ، كما أن نفس الكلام اللفظي قديم ، إذ كلام لا مقتضى له يكون لغوا مهملا ، وكلام الشارع منزه عن ذلك . وإذا ثبت أن مقتضى الكلام قديم ، وقد فسرتم الحكم به ، لزمكم ما سبق من تعليله بالحوادث ونحوه .

وتقرير الجواب عن هذا ، أن يقال : نحن لا ننكر أن كلام الشارع له مقتضى لازم له أزلا وأبدا وحيث كان ، بل نقول : إن الحكم هو مقتضى كلامه عند طلبه منا إيقاع الواجبات ، واجتناب المحرمات ، لا مطلقا ، إذ قبل تكليف المكلف لم يكن في حقه حكم أصلا ، فكيف قبل وجوده ؟ فكيف في الأزل قبل خلق العالم ؟ فأما قول القائل : تعلق خطاب الله تعالى في الأزل باقتضاء الأفعال من المكلفين إذا وجدوا ، فهو راجع إلى مسألة تكليف المعدوم ، وهي إذا حققت لفظية ، لأن أحدا لا يقول : إن الشارع استدعى منا التكاليف لنوقعها حال عدمنا ، ولا يستحيل أن يتعلق علمه وأمره لنا بإيقاعها بعد الوجود وأهلية التكليف ، بناء على تحقيق كلام النفس عند القائلين به .

فإن قال قائل : قولكم : إن نظم قوله تعالى : وأقيموا الصلاة ، ليس هو الحكم ، بل مقتضاه ، إنما يصح على ربكم في أن كلام الله تعالى هو العبارات المسموعة . أما المثبتون لكلام النفس ، فعندهم أن ذلك المعنى القائم بالنفس هو كلام الله بالحقيقة ، وهو حكمه المتوجه إلى خلقه بإيقاع التكاليف عند وجودهم ، [ ص: 259 ] وأيضا ، فإن حكمه سبحانه وتعالى إيجاب قائم بذاته ، لا وجوب ، بل الوجوب أثر الإيجاب ، وكذلك الحظر والندب والكراهية ، هي أحكام قائمة بذاته ، وهي نفس كلامه .

قلنا : أما كلام النفس ، فسيأتي الكلام عليه في اللغات إن شاء الله تعالى ، وليس لله تعالى عندنا كلام وراء ما نزل به جبريل على الأنبياء - عليهم السلام - ، وما كان من جنسه ، وأما كون الحكم هو الإيجاب لا الوجوب ، فهو قريب ، لكنه لا يضرنا ، فإنا إذا حققنا معنى الإيجاب ، وجدناه أيضا مقتضى الكلام ، لأنا نقول : أوجب الله علينا بكلامه كذا وكذا إيجابا ، والكلام هو المقتضي للإيجاب ، والإيجاب مقتضى الكلام ، إذ معنى الإيجاب : الإثبات والإلزام ، فمعنى إيجاب الله تعالى علينا الصلاة إثباتها علينا ، وإلزامه إيانا بها ، وليست حقيقة الإلزام هي حقيقة الكلام ، سواء كان معنى أو عبارة ، وهذا ضروري ، والنزاع فيه سفسطة ، لأن الإيجاب والإلزام هو تصيير الشيء واجبا ولازما ، والتصيير صفة فعلية ، والكلام صفة ذاتية ، والفرق بين الصفات الذاتية والفعلية معلوم بالضرورة ، وهذا الذي ذكرته في تقرير أن الحكم هو مقتضى الخطاب لا نفس الخطاب لازم للقائلين بكلام النفس بحق الأصل ، أي : من جهة خلافنا لهم في كلام النفس ، ولازم لمن تابعهم من أصحابنا على تعريف الحكم بالخطاب أو الكلام ، لأن الكلام عندهم هو القرآن المنزل المتلو المسموع ، وقد بينا أن صيغته ليست هي الأحكام ، بل مقتضاها ، وهو : وجوب الصلاة ، وتحريم الزنى ، ومندوبية السواك ، وكراهة رفع البصر في الصلاة مثلا ، وإباحة المباحات . [ ص: 260 ]

ولا جرم أن ابن الصيقل من أصحابنا كأنه حقق هذا الأمر ، فذكر للحكم حدودا ، وهي قول من قال : الحكم تعلق خطاب الشرع بأفعال المكلفين ، وقال بعضهم : العباد ، ليتناول الصبي والمجنون ، وقول بعضهم : الحكم ورود خطاب الشرع في أفعال المكلفين باقتضاء أو تخيير ، أو نصب سبب أو شرط أو مانع ، ثم أبطل ذلك كله ، واختار أن الحكم هو قضاء الشارع على المعلوم بوصف شرعي .

قال : والمراد بالوصف الشرعي ، هو ما لا يمكن إثباته من جهة العقل ، لا معنى له سوى ذلك ، نحو كون الفعل حراما أو واجبا أو صحيحا أو فاسدا ونحوه .

قلت : فالقضاء فعل ، وهو موافق لقولنا : إن الحكم مقتضى الخطاب ، وهو الإيجاب ونحوه الذي بينا أنه فعل موافق لقول أهل اللغة : حكم الحاكم : إذا قضى . وقد أطلت الكلام فيما يتعلق بالحكم ، وهو موضع يستحق التطويل لكثرة الخبط فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية