صفحة جزء
[ ص: 265 ]

فالواجب ، قيل : ما عوقب تاركه . ورد بجواز العفو . وقيل : ما توعد على تركه بالعقاب . ورد بصدق إيعاد الله تعالى . وليس بوارد على أصلنا ، لجواز تعليق إيقاع الوعيد بالمشيئة ، أو لأن إخلاف الوعيد من الكرم شاهدا ، فلا يقبح غائبا . ثم قد حكي عن المعتزلة ، جواز أن يضمر في الكلام ما يختل به معنى ظاهره ، وهذا منه . والمختار ما ذم شرعا تاركه مطلقا . وهو مرادف للفرض على الأصح . وهو قول الشافعي . وعند الحنفية ، الفرض : المقطوع به ، والواجب : المظنون ، إذ الوجوب لغة : السقوط ، والفرض : التأثير وهو أخص ، فوجب اختصاصه بقوة حكما ، كما اختص لغة . والنزاع لفظي ، إذ لا نزاع في انقسام الواجب إلى ظني وقطعي . فليسموا هم القطعي ما شاءوا . ثم لنتكلم على كل واحد من الأحكام .


قوله : " فالواجب ، قيل : ما عوقب تاركه " . لما انتهى الكلام في تعريف الحكم ، وقسمة أنواعه إلى الأقسام الخمسة ، أخذ يبين تعريف كل واحد منها ، وما يتعلق به من المسائل . ونحن قبل ذلك نشير إلى حدودها المستفادة من طريق قسمتها .

فالواجب : هو ما اقتضى الشرع فعله اقتضاء جازما .

والمندوب : هو ما اقتضى فعله اقتضاء غير جازم .

والمحظور : ما اقتضى تركه اقتضاء جازما .

والمكروه : ما اقتضى تركه اقتضاء غير جازم .

وهذه الأشياء هي محال الأحكام ومتعلقاتها ، أما الأحكام نفسها فهي :

الإيجاب : وهو اقتضاء الفعل الجازم . [ ص: 266 ]

والندب : وهو اقتضاء الفعل غير الجازم .

والحظر والكراهة جميعا : اقتضاء ترك الفعل الجازم أو غير الجازم .

والواجب ، مشتق من : وجب وجوبا ، والوجوب في اللغة : اللزوم ، والاستحقاق ، قال الجوهري : وجب الشيء ، أي : لزم ، يجب وجوبا ، وأوجبه الله ، واستوجبه ، أي : استحقه .

قلت : فالواجب ، هو اللازم المستحق ، وقد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الوجوب في اللغة : السقوط ، وهو أيضا عربي صحيح .

قال الجوهري : الوجبة ، السقطة مع الهدة ، ووجب الميت ، إذا سقط ومات .

غير أن بعضهم التبس عليه الأمر ، فأورد على ذلك إشكالا ، وهو أن بعض الفقهاء يقول : من زوج عبده من أمته لم يجب مهر ، وقيل : يجب ويسقط . قال : فلو كان الوجوب معناه السقوط ، لكان تقدير هذا الكلام ، وقيل : يسقط ويسقط . وهذا تكرار غير مفيد .

قلت : وإنما وقع اللبس من جهة اشتراك لفظ السقوط ، فإنه في اللغة بمعنى وقوع الشيء من أعلى إلى أسفل ، كقولنا : سقط الحجر من الجبل . وقوله تعالى : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء [ سبأ : 9 ] ، وقوله تعالى : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا [ الإسراء : 92 ] ، وإن يروا كسفا من السماء ساقطا [ الطور : 44 ] ، ونحو ذلك ، وفي الاصطلاح بمعنى براءة الذمة مما كانت مشغولة به ، وزوال اللزوم ، كقولنا : سقط المهر والدين ونحوه بالهبة أو بالقضاء ، أي : برئت الذمة منه ، وزال لزومه لها ، وحينئذ معنى قولنا : الوجوب في اللغة : السقوط ، هو أنا نتخيل الحكم أو الشيء الواجب جزما سقط ، أي : وقع على المكلف من الله سبحانه وتعالى ، الذي هو فوق عباده ، سواء قيل : إنها فوقية رتبة ، أو [ ص: 267 ] فوقية جهة ، وحينئذ لا تكون المسألة المذكورة غير مفيدة ، لأن أحد السقوطين فيها غير الآخر .

قلت : والتحقيق في الوجوب لغة : أنه بمعنى الثبوت والاستقرار ، وإلى هذا المعنى ترجع فروع مادته بالاستقراء . فمعنى وجبت الشمس : ثبت غروبها واستقر ، أو أنها استقرت في سفل الفلك ، ووجب الميت : ثبت موته واستقر . وقوله تعالى : فإذا وجبت جنوبها [ الحج : 36 ] ، أي : ثبتت واستقرت بالأرض ، ووجب المهر والدين : ثبت في محله واستقر ، إلى غير ذلك من فروع المادة المذكورة .

إذا ثبت هذا ، عدنا إلى قوله : " فالواجب ، قيل : ما عوقب تاركه " . وإنما قلت : قيل ، لأن المختار في حد الواجب يأتي بعد ، إن شاء الله تعالى .

قوله : " ورد " يعني : هذا التعريف للواجب مردود " بجواز العفو " ، ووجه رده : هو أن قولهم : الواجب ما عوقب تاركه ، يقتضي أن كل واجب ، فإن تاركه يعاقب ، لكن الله سبحانه وتعالى يجوز أن يعفو عن تارك الواجب ، أو يسقط العقاب عنه بتوبة ، أو استغفار ، أو دعاء داع ، أو بتكميل فرض بنفل ، على ما جاء في الحديث .

وبالجملة : فترك الواجب ، وفعل المحظور سبب للعقاب ، غير أن الحكم يجوز [ ص: 268 ] تخلفه عن سببه لمانع ، أو انتفاء شرط ، أو معارض مقاوم أو راجح ، وإذا جاز العفو عن تارك الواجب ، اقتضى الحد المذكور أن لا يكون هذا الواجب المتروك واجبا ، لأن تاركه لم يعاقب .

مثاله : لو ترك الصلاة المكتوبة ، ثم تخلف العقاب عنه لأحد الأسباب المذكورة ، لزم بمقتضى الحد المذكور أن لا تكون المكتوبة واجبة ، وهو باطل .

وهذا النقض من حيث العكس ، وهو قولنا : كل ما لم يعاقب على تركه ، فليس بواجب ، فيبطل بما ذكرنا ، ويرد عليه من حيث الطرد ، ضرب ابن عشر على ترك الصلاة ، إذ الصلاة هاهنا فعل عوقب تاركه ، وليس واجبا عليه على المشهور ، وكذلك كل ما أدب الصبيان على تركه هو معاقب عليه ، وليس بواجب عليهم .

قوله : " وقيل : ما توعد " أي : الواجب ما توعد " على تركه بالعقاب " .

هذا تعريف آخر للواجب ، وهو أعم من الذي قبله ، لأن كل معاقب على تركه متوعد عليه ، وليس كل متوعد على تركه بالعقاب معاقبا عليه ، لجواز العفو بعد الوعيد ، وصاحب هذا التعريف فر مما ورد على الأول . [ ص: 269 ]

قوله : " ورد " هذا التعريف أيضا رد " بصدق إيعاد الله تعالى " .

ومعناه : أن الوعيد خبر ، وخبر الله سبحانه وتعالى صادق ، لا بد من وقوع مخبره ، وإذا لزم وقوع مقتضى الوعيد ، صار هذا التعريف مثل الذي قبله ، وهو قولهم : الواجب ما عوقب تاركه ، فيرد عليه ما ورد على الأول .

قوله : " وليس بوارد " أي : ليس ما ذكر من صدق إيعاد الله سبحانه وتعالى بوارد على الحد المذكور . " على أصلنا " . والأصل المشار إليه هو ما تنازع فيه أهل السنة والمعتزلة من أن العفو عن فاعل الكبيرة ما لم يتب محال عندهم ، على ما تقرر في كتاب : " إبطال التحسين والتقبيح " وبيان عدم وروده من وجهين :

أحدهما : " جواز تعليق إيقاع الوعيد بالمشيئة " مثل أن يقول : صل ، فإن تركت الصلاة عذبتك إن شئت ، فإذا تركها ، بقي في مشيئة الله تعالى ، إن شاء عاقبه بمقتضى الوعيد ، وإن شاء عفا عنه بمقتضى الرحمة والجود ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 و 116 ] ، وحديث عبادة في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد ، من أتى بهن ، لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن ، فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه . [ ص: 270 ]

وإذا جاز تعليق إيقاع الوعيد بالمشيئة ، لم يلزم من صدق الإيعاد وقوع مقتضاه من العقاب لجواز أنه علقه بالمشيئة ، ولم يشأ إيقاعه ، وحينئذ لا يكون قولنا : الواجب : ما توعد على تركه ، فاسدا كقولنا : الواجب ما عوقب تاركه ، لعدم استلزام الوعيد الوقوع ، فلا يرد على هذا ما ورد على الأول .

الوجه الثاني : " أن إخلاف الوعيد من الكرم شاهدا " أي : فيما يشاهد من أحوال العقلاء . " فلا يقبح " يعني : إخلاف الوعيد " غائبا " أي : في حق الله تعالى ، لأنه غائب عن الأبصار ، وإن كان شاهدا لخلقه كما يشاء في كل مكان .

أما أن إخلاف الوعيد من الكرم في الشاهد ، فلإجماع العقلاء على حسن العفو ، وإنما يكون بعد انعقاد سبب جواز العقوبة ، وذلك مستلزم لإخلاف الوعيد مطلقا أو غالبا ، وبالجملة فترك الوعيد إلى العفو حسن ، مجمع عليه في عرف الناس ، ولا أثر للفرق . بأن خبر الناس يجوز إخلافه ، بخلاف خبر الله تعالى ، لأن الخلف في الخبر كذب ، والكذب قبيح في حق الجميع ، خصوصا عند المعتزلة ، فإن قبحه ذاتي لا يختلف . ثم قد جاز إخلاف الوعيد من العقلاء في عرفهم ، فكذلك إخلافه من الله تعالى ، ويعلم بذلك أن إخلاف الوعيد من باب الكرم ، لا من باب الكذب ، وفي هذا الباب أنشد عمرو بن العلاء عن أبي عبيد قول الشاعر : [ ص: 271 ]


وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وأما أن إخلاف الوعيد لا يقبح من الله سبحانه وتعالى ، فهو لازم للمعتزلة على أصلهم المشهور ، وهو أن ما قبح من الخلق ، قبح من الله تعالى ، وما لا ، فلا ، وقد بينا أن إخلاف الوعيد لا يقبح من الخلق ، فلا يقبح من الله تعالى . وهذا الأصل المذكور لازم لقاعدتهم ، وهي أن الأفعال حسنة أو قبيحة لذاتها ، أو لوصف قائم بها ، وحينئذ ما أدرك العقل قبحه من أفعال الخلق أو حسنه ، أدرك حسنه أو قبحه من أفعال الحق . ولهذا قطعوا بأن أفعال العباد مخلوقة لهم ، لأنه يقبح من العدل أن يخلق شيئا ويعاقب عليه غيره ، فكذلك الله تعالى يقبح ذلك منه .

قوله : " ثم قد حكي عن المعتزلة " ، جواز أن يضمر في الكلام ما يختل به معنى ظاهره ، وهذا منه " .

هذا تقرير لجواز تعليق العقاب بالمشيئة على من يستبعده ، وإلزام للمعتزلة بمثله من مذهبهم .

وتقرير ذلك : أكثر ما في تعليق العقاب بالمشيئة أنه أضمر في الكلام ما اختل به معنى ظاهره ، إذ قوله : إن تركت الصلاة عاقبتك ، ظاهره وقوع العقاب بترك الصلاة مطلقا ، وأنه شاء ذلك .

فقوله : إني أردت أن أعاقبك إن شئت ، تقييد مخصص رافع لحكم ظاهر [ ص: 272 ] الكلام ، وذلك مخل بالظاهر ، لكن مثل هذا جائز عقلا ، إذ لا يلزم من وقوعه محال ، وواقع شرعا ، إذ هو في الحقيقة تخصيص ، وقد وقع في الشرع كثيرا ، وقد حكي عن المعتزلة مثله في التعريض ، وبيانه : أنهم لما قالوا في مسألة التحسين والتقبيح : إن من الأشياء ما يعلم حسنه أو قبحه بالعقل ، كالكذب ، فإنه قبيح في العقل لذاته ، قلنا لهم : لو كان الكذب قبيحا لذاته ، لما اختلف باختلاف الأحوال ، لكنه قد اختلف ، فإنا لو رأينا كافرا يطلب نبيا ليقتله ، فدخل دارا ، فجاء الكافر ، فقال : أين الرسول ، هل هو عندكم ؟ لوجب باتفاق العقلاء الكذب هاهنا ، لئلا يهدر دم الرسول ظلما .

وأجابوا عن هذا بأن قالوا : لا نسلم وجوب الكذب ، لأنه لا يتعين دافعا عن الرسول ، إذ في التعريض غنية عنه ، مثل أن يقول لنا : هل رأيتم الرسول ؟ فنقول : ما رأينا الرسول ، ونعني به رسول زيد . أو يقول لنا : هل عندكم الرسول ؟ فنقول : لا ، ونريد به رسول السلطان ، وهذا إضمار يخل بمعنى ظاهر الكلام ، وقد قالوا به ، فليجز مثل ذلك في تعليق إيقاع العقاب بالمشيئة ، لأنه ضرب من التعريض ، وقع لفائدة الترهيب . وهذا معنى قوله : " وهذا منه " .

قوله : " والمختار " أي : والمختار في حد الواجب أنه : " ما ذم شرعا تاركه مطلقا " .

وهذا أعم من التعريفين قبله ، لأن كل معاقب أو متوعد بالعقاب على الترك [ ص: 273 ] مذموم ، أي : يستحق الذم ، وليس كل مذموم معاقبا ، أو متوعدا على الترك ، لجواز أن يقال : صل أو صم . فإن تركت ، فقد أخطأت وعصيت ولا عقاب عليك ، لأن العقاب موضوع شرعي ، فللشرع أن يضعه له ، وله أن يرفعه ، والذم هو العيب ، وهو نقيض المدح والحمد ، يقال : ذمه يذمه : إذا عابه ، والعيب : النقص . فكان الذم نسبة النقص إلى الشخص ، فقولنا : " ما ذم " ، أي : ما عيب " شرعا " ، أي : احتراز مما عيب عقلا أو عرفا ، وكثير من الأفعال يذم فاعله عرفا لا شرعا ، فلا يكون واجبا ، لأن الاعتبار بالذم الشرعي .

وقولنا : " مطلقا " : احتراز من الواجب الموسع ، والمخير وفرض الكفاية ، فإن الترك يلحقها بالجملة ، وهو ترك الموسع في بعض أجزاء وقته ، وترك بعض أعيان المخير ، وترك بعض المكلفين لفرض الكفاية ، لكن ذلك ليس تركا مطلقا ، إذ الموسع إن ترك في بعض أجزاء وقته فعل في البعض الآخر ، ومخير إن ترك بعض أعيانه ، فعل البعض الآخر ، وفرض الكفاية إن تركه بعض المكلفين ، فعله البعض الآخر ، وكلهم فيه كالشخص الواحد ، فلا يتعلق بهذا الترك ذم ، لأنه ليس تركا مطلقا ، بمعنى خلو محل التكليف عن إيقاع المكلف به .

والشيخ أبو محمد يذكر قيد الإطلاق في " الروضة " ، بل قال : وقيل : ما يذم تاركه شرعا . فترد الواجبات الثلاثة حيث يلحقها الترك .

[ ص: 274 ]

وقال الآمدي : الواجب : ما تركه سبب للذم شرعا في حالة ما . فقوله : في حالة ما ، محافظة على ما ذكرناه من الواجبات الثلاثة ، لأن تركها إنما يكون سببا للذم . وقال ابن الصيقل : الواجب : هو الفعل المقتضى من الشارع ، الذي يلام تاركه شرعا ، وهو معنى ما ذكرنا ، غير أن اللوم أخف من الذم .

قال الجوهري : اللوم : العذل . وقال أيضا : استلام الرجل إلى الناس : استذم .

فعلى هذا هما سواء .

فإن قيل : ما ذكرتموه في حد الواجب يقتضي أن كل واجب ، فإن تاركه مذموم شرعا ، وهو باطل بالنائم والناسي ، فإنهما يتركان الواجبات حال النوم والنسيان ولا يذمان .

فالجواب : أن الوجوب والذم من لواحق التكليف ، والناسي والنائم وغيرهما ممن لا يفهم الخطاب ، غير مكلف عندنا في حال العذر ، وإنما يتوجه إليه الخطاب بعد زوال العذر ، كما قررناه في مسألة تكليف النائم والناسي . وإذا كانا غير مكلفين لم ينتقض الحد بهما ، كما لا ينتقض بالصبي والمجنون .

وقيل : حد الواجب : ما يتعرض تاركه للعقاب واللوم . وزعم بعضهم أن هذا أحسن ما قيل في حد الواجب .

الفرق بين الفرض والواجب

قوله : " وهو " يعني الواجب " مرادف للفرض على الأصح " أي : أصح الروايتين عن أحمد - رضي الله عنه - . " وهو قول الشافعي . وعند الحنفية : الفرض [ ص: 275 ] المقطوع به ، والواجب المظنون " يعني أنهم فرقوا بين الفرض والواجب ، فقالوا : الفرض ما ثبت بدليل قاطع شرعا ، كنص الكتاب والإجماع والخبر المتواتر ، والواجب : ما ثبت بدليل ظني كالقياس وخبر الواحد .

ومعنى قولنا : " مرادف للفرض " ، أي : مساويه في المعنى ، تشبيها له برديف الراكب ، وهو الذي على ردف الدابة ، من جهة أن هذين اسمان على مسمى واحد ، كما أن ذينك راكبان على مركوب واحد .

قوله : " إذ الوجوب لغة : السقوط ، والفرض : التأثير ، وهو أخص ، فوجب اختصاصه بقوة حكما ، كما اختص لغة " .

هذا تقرير الفرق بين الفرض والواجب . وبيانه : أن الوجوب في اللغة السقوط ، كما سبق تقريره . والفرض : التأثير ، وإلى معناه يرجع أكثر فروع مادته .

قال الجوهري : الفرض : الحز في الشيء ، وفرض القوس : هو الحز الذي يقع فيه الوتر ، والفريض : السهم المفروض فوقه ، والتفريض : التحزيز ، والمفرض : الحديدة التي يحز بها ، والفراض : فوهة النهر .

وإذا ثبت ذلك ، فالفرض أخص من السقوط ، إذ لا يلزم مثلا من سقوط [ ص: 276 ] الحجر ونحوه على الأرض ، أن يحز ويؤثر فيها ، ويلزم من حزه وتأثيره في الأرض ، أن يكون قد سقط ، واستقر عليها . وإذا كان كذلك ، وجب اختصاص الفرض بقوة في الحكم ، كما اختص بقوة في اللغة ، حملا للمسميات الشرعية على مقتضياتها اللغوية ، إذ الأصل عدم التغيير .

وقولنا : الفرض ما كان طريق ثبوته قطعيا ، هو نوع اختصاص له ، فوجب القول به .

قوله : " والنزاع لفظي " إلى آخره ، أي : أن النزاع في المسألة ، إنما هو في اللفظ ، مع اتفاقنا على المعنى . إذ لا نزاع بيننا وبينهم في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من التكاليف ، إلى قطعي وظني . واتفقنا على تسمية الظني واجبا ، وبقي النزاع في القطعي ، فنحن نسميه واجبا وفرضا بطريق الترادف ، وهم يخصونه باسم الفرض ، وذلك مما لا يضرنا وإياهم ، فليسموه ما شاءوا .

ثم قد ذكر الجوهري أن الفرض هو ما أوجبه الله تعالى ، سمي بذلك ، لأن له معالم وحدودا ، وقال في الباب أيضا : فرض الله علينا كذا ، وافترض ، أي : أوجب ، والاسم الفريضة . هذا نقله عن أهل اللغة .

وإذا استوى الفرض والواجب فيما قلنا فهما سواء في الشرع ، لأن الأصل عدم [ ص: 277 ] التغيير ، واختلاف طريق ثبوت الحكم في القوة والضعف ، والقطع والظن ، لا يوجب اختلاف حقيقته في نفسه .

تنبيه : الذي نصره أكثر الأصوليين هو ما ذكرناه ، من أن الواجب مرادف للفرض ، لكن أحكام الفروع قد بنيت على الفرق بينهما ، فإن الفقهاء ذكروا أن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات ومسنونات ، وأرادوا بالفروض الأركان .

وحكمهما مختلف من وجهين :

أحدهما : أن طريق الفرض منها أقوى من طريق الواجب .

والثاني : أن الواجب يجبر إذا ترك نسيانا بسجود السهو ، والفرض لا يقبل الجبر ، وكذا الكلام في فروض الحج وواجباته ، حيث جبرت بالدم دون الأركان .

وأشار الشيخ أبو محمد إلى الوجهين ، فقال : الفرض : هو الواجب في إحدى الروايتين ، لاستواء حدهما ، والثانية : الفرض آكد ، فقيل : هو اسم لما يقطع بوجوبه ، وقيل : ما لا يسامح في تركه عمدا ولا سهوا ، نحو أركان الصلاة .

قلت : واختلفت الرواية عن أحمد - رحمه الله - في صدقة الفطر ، فقال في رواية مهنا : هي واجبة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضها ، وهذا تسوية منه بين الفرض والواجب ، وقال في رواية المروذي : سمعت ابن عمر يقول : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر ، وأنا ما أجترئ أن أقول : إنها فرض ، وقيس بن سعد يدفع أنها فرض ، وهذا فرق منه بينهما .

وكذلك اختلفت الرواية عنه في المضمضة والاستنشاق ، وهل هما فرض أو [ ص: 278 ] واجب ؟ بناء على الأصل المذكور . وصحح ابن عقيل في " الفصول " أنهما واجب لا فرض . والله أعلم .

قوله : " ثم لنتكلم على كل واحد من الأحكام " يعني في مسائله . والكلام السابق ، كأنه في أمر كلي متعلق بالواجب ، فجعل متصلا بالكلام في حده ، وبعضهم يجعله مسألة من مسائل الواجب . وهو كذلك ولا حرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية