صفحة جزء
[ ص: 151 ] المسألة الخامسة

إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟

أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول .

وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر .

فللمصحح أن يستدل بأوجه :

أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب .

والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين .

والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها .

واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره .

وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر .

وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب .

واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] .

وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد .

واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص .

واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع .

وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر .

إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به .

وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه :

أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] .

وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .

فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال .

والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن .

[ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى .

لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب .

وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره .

والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك .

فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام .

ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب .

فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية