صفحة جزء
[ ص: 204 ] المسألة الخامسة

تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق .

وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم .

[ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة .

ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] .

والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية :

أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة .

والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة .

إلا أن هذا الوجه على ضربين :

أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك .

والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

وقوله : القصد ، القصد تبلغوا .

والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي .

[ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا .

والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق .

فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة :

فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به .

وأما الثاني : وهي :

التالي السابق


الخدمات العلمية