صفحة جزء
فصل

فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات ، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق ، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم ; فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه ، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا ؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين :

أحدهما : من جهة شدة التكليف في نفسه ، بكثرته أو ثقله في نفسه .

والثاني : من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا .

وحسبك من ذلك الصلاة ; فإنها من جهة حقيقتها خفيفة ، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت ، والشاهد لذلك قوله تعالى : [ ص: 406 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر ، واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة ; لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق ، والرجاء الذي هو حاد ، وذلك ما تضمنه قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ البقرة : 46 ] الآية ، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب ، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار ، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ، ونهي عن التشديد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الدين متين ; فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وقال : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا يشمل التشديد بالدوام ، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية