صفحة جزء
فصل

وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم ، وإن خالفتها في النظر ، وهي ثلاث : إحداها : العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله ; فإن كان مخالفا له ; فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ، ولا أن يقتدى به في علم ، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد ، والحمد لله .

[ ص: 142 ] والثانية : أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم ، وملازمته لهم ، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك ، وهكذا كان شأن السلف الصالح .

فأول ذلك ملازمة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذهم بأقواله وأفعاله ، واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان ، وعلى أي وجه صدر ، فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا ، وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض ، والحكمة التي لا ينكسر قانونها ، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها ، وإنما ذلك بكثرة الملازمة ، وشدة المثابرة .

وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية ; حيث قال : يا رسول الله ألسنا على حق ، وهم على باطل ؟ قال : بلى .

قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟

قال : بلى .

قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟

قال : يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا
.

[ ص: 143 ] فانطلق عمر ولم يصبر ، متغيظا ، فأتى أبا بكر ; فقال له مثل ذلك .

فقال أبو بكر : إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا .

قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ; فقال : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال نعم . فطابت نفسه ، ورجع .

فهذا من فوائد الملازمة ، والانقياد للعلماء ، والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان .

وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين : " أيها الناس اتهموا رأيكم ، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته " ، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال ، وإنما نزلت سورة [ ص: 144 ] الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة ، لشدة الإشكال عليهم ، والتباس الأمر ، ولكنهم سلموا ، وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن ، فزال الإشكال والالتباس .

وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم ; فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فقهوا ، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية ، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك ، وقلما وجدت فرقة زائغة ، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف ، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري ، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ، ولا تأدب بآدابهم ، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون ، كالأئمة الأربعة وأشباههم .

والثالثة : الاقتداء بمن أخذ عنه ، والتأدب بأدبه ، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء التابعين بالصحابة ، وهكذا في كل قرن ، وبهذا [ ص: 145 ] الوصف امتاز مالك عن أضرابه ، أعني بشدة الاتصاف به ، وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين ، كذلك كانوا ، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى ، فلما ترك هذا الوصف ; رفعت البدع رءوسها ، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك ، أصله اتباع الهوى ، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية