صفحة جزء
[ ص: 483 ] المسألة الثالثة عشرة

لما كان التكليف مبنيا على استقراء عوائد المكلفين ; وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف .

فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون ، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ، ولتعتبر بشريعتنا ; فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد ، وعلى مقدار واحد ، وعلى ترتيب واحد ، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر ، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك ، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه ، ولو اختلفت العوائد في الموجودات ; لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب ; فلا تكون الشريعة على ما هي عليه ، وذلك باطل .

والثاني : أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة ; كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما [ ص: 484 ] فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال ، وأن سنة الله لا تبديل لها ، وأن لا تبديل لخلق الله ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا ، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال ; فإن الخلاف بينهما محال .

والثالث : أنه لولا أن اطراد العادات معلوم ; لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه ; لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي ، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله ; فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق ، فلو كانت العادة غير معلومة ، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا ; لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي ، لكن العلم حاصل ; فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا ، وهو المطلوب .

[ ص: 485 ] فإن قيل : هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم ، بل إن كان فمظنون ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده ; لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر ، والإمداد ممكن أن لا يوجد ، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم ; فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن ، وعدمه كذلك ، فإذا كان كذلك ; فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده ، هل هذا إلا عين المحال ؟

والثاني : إن خوارق العادات في الوجود غير قليل ، بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك ، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات ، والوقوع زائد على مجرد الإمكان ، فهو أقوى في الدلالة ، فإذا لا يصح أن يكون مجاري العادات معلومة البتة .

فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا ، وإنما اندفع بالسمع القطعي ، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة ; لم يفد حكم الجواز العقلي .

ولا يقال : إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال .

لأنا نقول : إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد ، وليس كذلك هنا ، بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه في أصل الإمكان ، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع ، وكم من جائز غير واقع ؟ !

وكذلك نقول : العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم [ ص: 486 ] ويمكن أن يوجد ; فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة ، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد ; فواجب وجوده ، ومحال استمرار عدمه ، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ; ولذلك قالوا : من الجائز تنعيم من مات على الكفر ، وتعذيب من مات على الإسلام ، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون ، وأن المسلمين هم المنعمون ; فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد ، كذلك هاهنا ; فالجواز من حيث نفس الجائز ، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج ; فلا يتعارضان .

وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته ، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية ، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا في العمل على مقتضى العادات البتة ، ولولا استقرار العلم بالعادات ; لما ظهرت الخوارق كما تقدم ، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات ، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى ، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك ; دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي ، أو ولاية الولي إن لم تقترن ، أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية ، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال ; غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال ، [ ص: 487 ] وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية ، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي ، والعمل بخبر الواحد قطعي ، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي ، إلى أشباه ذلك ، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [ به ] ظنيا ، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا ، وكذلك سائر المسائل ، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية ، وهذا كله ظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية