صفحة جزء
[ ص: 338 ] المسألة الثانية

لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير ; لأن النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا .

ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ [ ص: 339 ] لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها ، والجزئيات المكية قليلة .

وإلى هذا ، فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ، ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه ، وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .

فدخول النسخ في الفروع المكية قليل ، و هي قليلة فالنسخ فيها قليل في قليل ، فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر .

ووجه آخر ، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ; لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق ؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ؛ ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر ; لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى [ ص: 340 ] هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية