[ ص: 368 ]  [ ص: 369 ] الفصل الثالث في الأوامر والنواهي .  
وفيه مسائل :  
المسألة الأولى  
الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر  ؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به ، وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه ، ومع      
[ ص: 370 ] هذا ففعل المأمور به ، وترك المنهي عنه يتضمنان ، أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل ، أو الترك ، أو لا يقع .  
وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين .  
أحدهما : الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان ، وما أراد أن لا يكون ، فلا سبيل إلى كونه ، أو تقول ، وما لم يرد أن يكون ، فلا سبيل إلى كونه .  
والثاني : الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به ، وعدم إيقاع      
[ ص: 371 ] المنهي عنه ، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ، ويرضاه ، ويحب أن يفعله المأمور ، ويرضاه منه من حيث هو مأمور به ، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ، ويرضاه .  
فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به ؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر ; إذ الأمر يستلزمها ; لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك ؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا ، وإلا لم يكن إلزاما ولا يتصور له معنى مفهوم .  
وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور ، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول ، وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك ، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول ، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر ، فقد يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد ، وأما بالمعنى الثاني ، فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد .  
والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة ؛ فقال تعالى في الأولى :      
[ ص: 372 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا  الآية [ الأنعام : 125 ]  
وفي حكاية  
نوح   عليه السلام :  
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم     [ هود : 34 ] .  
وقال تعالى :  
ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم  إلى قوله :  
ولكن الله يفعل ما يريد     [ البقرة : 253 ] ، وهو كثير جدا .  
وقال في الثانية :  
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر     [ البقرة : 185 ]  
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم  الآية [ المائدة : 6 ] .  
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم  إلى قوله :  
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا     [ النساء : 26 - 28 ]      
[ ص: 373 ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت     [ الأحزاب : 33 ] ، وهو كثير جدا أيضا .  
ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة ؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا ، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا ، وأثبتها في الأمر مطلقا ، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك .  
وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق ، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين ، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير ، وهي أيضا إرادة التكليف ، وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف ، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان .