صفحة جزء
[ ص: 467 ] المسألة التاسعة

ورود الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ، ولا هما متلازمان في الوجود ، ولا في العرف الجاري إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معا في عمل واحد ، وفي غرض واحد كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة ، ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة لأن الحكم فيهما واحد ; لأن الأمر قد يكون للإباحة كقوله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

وإنما قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح والمعنى في المساق مفهوم فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض ، ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد ; لأن القصد يأباه والمقاصد معتبرة في التصرفات ، [ ص: 468 ] ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون حالة الانفراد .

ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ، ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين ، أو منهيين ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن بيع وسلف ، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز .

ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها ، وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، وقال إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الاجتماع مؤثرا ، وهو [ ص: 469 ] دليل ، وكان تأثيره في قطع الأرحام ، وهو رفع الاجتماع ، وهو دليل أيضا على تأثير الاجتماع .

وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله ، أو ما بعده .

وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم ، أو يومين ، وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا .

[ ص: 470 ] ونهى عن جمع المفترق ، وتفريق المجتمع خشية الصدقة ، وذلك يقتضي أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما ليس للانفراد ، ولو في سلب الانفراد .

ونهى عن الخليطين في الأشربة ; لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار .

[ ص: 471 ] وعن التفرقة بين الأم وولدها ، وهو في الصحيح .

[ ص: 472 ] وعن التفرقة بين الأخوين ، وهو حديث حسن ، وهو كثير في الشريعة .

[ ص: 473 ] وأيضا فإذا أخذ الدليل في الاجتماع أعم من هذا تكاثرت الأدلة على اعتباره في الجملة كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد كالتعاون والتظاهر ، وإظهار أبهة الإسلام وشعائره ، وإخماد كلمة الكفر ، ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد ، وشرعت المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصا ، وبين سائر أهل الإسلام عموما .

وقد مدح الاجتماع ، وذم الافتراق ، وأمر بإصلاح ذات البين ، وذم ضدها ، وما يؤدي إليها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .

وأيضا فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرا زائدا لا يوجد مع الافتراق هذا وجه تأثير الاجتماع .

وللافتراق أيضا تأثير من جهة أخرى فإنها إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق أيضا معان لا تزيلها حالة الاجتماع فالنهي عن [ ص: 474 ] البيع والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع ، وهو الانتفاع بكل واحد منهما ; إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع ، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ، ومثله الجمع بين الأختين ، وما في معناه مما ذكر من الأدلة .

وأيضا فإن كان للاجتماع معان لا تكون في الانفراد فللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به ، فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان ، فإن مجموعها هو الإنسان ، ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد ، أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان ، بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد واليد تفيد ما لا تفيده الرجل ، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق ، وغيرها .

فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات .

[ ص: 475 ] فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الأفراد حالة الاجتماع فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع ، فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضا حالة الاجتماع .

وأيضا فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضا فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد ، ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين .

وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد ، فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ، ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر ، أو بالنهي ، أو لا ، فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة [ ص: 476 ] الصفقة تجمع بين حرام وحلال ، ووجه كل قول منهما قد ظهر .

ولا يقال : إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول ، فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع ، وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد ، فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع ، فإنه صار جزءا من الجملة ، وبعض الجملة تابع للجملة ، ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ، أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل ، وسائر الأقسام التي يختلف فيها حكم الجزء مع الكل ، وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا .

فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ، ووجه ما تقدم في تعليل المازري ، وما ذكر معه .

لأنا نقول : إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا ، وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر ، وله معارض ، وهو اعتبار الأفراد كما مر .

وأما توجيه المازري فاعتباره مختلف فيه ، وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ، ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ، ويمكن أن لا .

التالي السابق


الخدمات العلمية