صفحة جزء
[ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك .

وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب .

ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه .

وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به .

ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم .

لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه .

وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .

ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين .

وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا [ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق .

فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة .

والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه .

فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة .

والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم .

وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث .

وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول :

وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا

قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية