صفحة جزء
فصل

وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال : فيرد التخويف ويتسع مجاله ، لكنه لا يخلو من الترجية ، كما في سورة الأنعام ; فإنها جاءت مقررة للخلق ، ومنكرة على من كفر بالله ، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه ، وصد عن سبيله ، وأنكر ما لا ينكر ، ولد فيه وخاصم ، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف ، وإطالة التأنيب والتعنيف ; فكثرت مقدماته ولواحقه ، ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق ، وقد تقدم الدعاء ، وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وإنذارا ، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية ; لأن درء المفاسد آكد .

وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها ، وذلك في مواطن القنوط ومظنته ; كما في قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ الزمر : 53 ] ; فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ; فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول [ ص: 171 ] وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة ; فنزلت فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط ; فجيء فيه بالترجية غالبة ، ومثل ذلك الآية الأخرى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما .

ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب ; كان جانب التخويف أغلب ، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق ; فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة [ ص: 172 ] هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا ، وقد مر لهذا المعنى بسط في كتاب المقاصد ، والحمد لله .

فإن قيل : هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر ، فيأتي التخويف من غير ترجية ، وبالعكس ألا ترى قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 9 ] إلى آخرها ; فإنها كلها تخويف وقوله : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 19 ] إلى آخر السورة .

وقوله : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل : 1 5 ] إلى آخر السورة .

ومن الآيات قوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله : فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [ الأحزاب : 57 58 ] وفي الطرف الآخر قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 11 ] إلى آخرها وقوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 8 ] إلى آخرها ومن الآيات قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية [ النور : 22 ] .

وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو ; فقال ابن عباس : أي آية أرجى في كتاب الله ؟ فقال عبد الله : قوله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [ الزمر : 53 ] فقال ابن [ ص: 173 ] عباس لكن قول الله : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ البقرة : 260 ] قال ابن عباس : فرضي منه بقوله بلى قال فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان وعن ابن مسعود ; قال : في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [ آل عمران : 135 ] إلى آخر الآية ، وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 174 ] وعن ابن مسعود : إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية [ النساء : 40 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية [ النساء : 64 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 175 ] وأشياء من هذا القبيل كثيرة ، إذا تتبعت وجدت ; فالقاعدة لا تطرد ، وإنما الذي يقال أن كل موطن له ما يناسبه ، ولكل مقام مقال ، وهو الذي يطرد في علم البيان ، أما هذا التخصيص ; فلا .

فالجواب : إن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم وعنه جوابان : إجمالي ، وتفصيلي : .

فالإجمالي أن يقال : إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم ; فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية ، واعتمدت في الحكم بها وعليها ، شأن الأمور العادية الجارية في الوجود ، ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل ، يدل على الاستقراء ; فليس بقادح فيما تأصل .

وأما التفصيلي ; فإن قوله : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 ] قضية [ ص: 176 ] عين في رجل معين من الكفار بسبب أمر معين ، من همزه النبي عليه الصلاة والسلام وعيبه إياه ; فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح ، لا أنه أجري مجرى التخويف ; فليس مما نحن فيه ، وهذا الوجه جار في قوله : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 7 ] وقوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله [ الأحزاب : 57 58 ] الآيتين جار على ما ذكر .

وكذلك سورة والضحى ، وقوله : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] غير ما نحن فيه ، بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح .

وقوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] قضية عين لأبي بكر الصديق ، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبة المتصف بالمسكنة والهجرة ، ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ، ولكن أحب الله له معالي الأخلاق وقوله : لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه بل النظر في معاني آيات على استقلالها ، ألا ترى أن قوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] أعقب بقوله وأنيبوا إلى ربكم الآية [ الزمر : 54 ] وفي هذا تخويف عظيم [ ص: 177 ] مهيج للفرار من وقوعه ، وما تقدم من السبب من نزول الآية يبين المراد ، وأن قوله لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف .

وقوله : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] نظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها ، وإلا ; فقوله : أولم تؤمن [ البقرة : 260 ] تقرير فيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنا ، فلما قال بلى حصل المقصود وقوله : والذين إذا فعلوا فاحشة [ آل عمران : 135 ] كقوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ النساء : 110 ] داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله : ولا تكن للخائنين خصيما [ النساء : 105 ] ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [ النساء : 107 109 ] وقوله : إن تجتنبوا آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك ; كأكل مال اليتيم ، والحيف في الوصية ، وغيرهما ; فذلك مما يرجى به بعد تقدم التخويف .

وأما قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] فقد أعقب بقوله : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الآية [ النساء : 42 ] ، وتقدم قبلها قوله : الذين يبخلون إلى قوله : عذابا مهينا [ النساء : 37 ] بل قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] جمع التخويف مع الترجية [ ص: 178 ] وكذلك قوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية [ النساء : 64 ] تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم ; فهو مما نحن فيه .

وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة ، ولم يرد ابن مسعود بقوله : ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها أنها آيات ترجية خاصة ، بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات ، قد احتوت على علم كثير ، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين ، ولذلك قال : ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها ، وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن إجراؤه على البشارة والنذارة ، وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية