صفحة جزء
[ ص: 198 ] المسألة السابعة

العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام : قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه ; كعلوم اللغة العربية التي لابد منها وعلم القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وقواعد أصول الفقه ، وما أشبه ذلك ; فهذا لا نظر فيه هنا .

ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن ، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة ; فإن علم العربية ، أو علم الناسخ والمنسوخ ، وعلم الأسباب ، وعلم المكي والمدني ، وعلم القراءات ، وعلم أصول الفقه ، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن ، وأما غير ذلك ; فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك ، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة ; إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ، ولو قال قائل : إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة .

وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم ، هل كانوا آخذين فيها ، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها ؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن ، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير ; فلينظر امرؤ أين يضع قدمه [ ص: 199 ] وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ، ولا ينبئك مثل خبير ; فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة ، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه .

وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام ، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما ، بل من جهة ما هو هو ، وذلك ما فيه من دلالة النبوة ، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية ; إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما ، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله ، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ، ولا سورة دون سورة ، ولا نمط منه دون آخر ، بل ماهيته هي المعجزة له ، حسبما نبه عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ; فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ; فهو بهيئته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفيها عجز الفصحاء اللسن ، والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه ، ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع ، لأنه كيفما تصور الإعجاز به ; فماهيته هي الدالة على ذلك ; فإلى أي نحو منه ملت دلك ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا ، وموضعه كتب الكلام [ ص: 200 ] وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله ، وخطاب الخلق به ، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم ، مع أنه المنزه القديم ، وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به ، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات ، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد ، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله .

ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية ، والمحاسن الأدبية ; فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد : فمن ذلك : عدم المؤاخذة قبل الإنذار ، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] ولكل جزاء مثله .

ومنها : الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق ; فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه ، وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية .

ومنها : ترك الأخذ من أول مرة بالذنب ، والحلم عن تعجيل المعاندين [ ص: 201 ] بالعذاب ، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان ، وإن استعجلوا به ومنها : تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا ; كقوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ، والمائدة 6 ] ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ التحريم : 12 ] وقوله : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق ، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به ; فلابد منه ، وإليه الإشارة بقوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] والله لا يستحيي من الحق [ الأحزاب : 53 ] ومنها : التأني في الأمور ، والجري على مجرى التثبت ، والأخذ بالاحتياط ، وهو المعهود في حقنا ; فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة ; حتى قال الكفار : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة [ الفرقان : 32 ] فقال الله : كذلك لنثبت به فؤادك [ الفرقان : 32 ] وقال : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ الإسراء : 106 ] وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف ، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل [ ص: 202 ] وجهة وإلى كل محتاج إليه ، وحين أبى من أبى الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا بالتغليظ بالدعاء ; فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا ، حكمة بالغة ، وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان ، حتى إذا كمل الدين ، ودخل الناس فيه أفواجا ، ولم يبق لقائل ما يقول ; قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة ، ووضحت المحجة ، واشتد أس الدين ، وقوي عضده بأنصار الله ; فلله الحمد كثيرا على ذلك .

ومنها : كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء ; فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه ، وإن لم ينص عليها بالعبارة ; فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير ، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا ب ( يا ) المشيرة إلى بعد المنادي لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد ، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء ، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة : منها : إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى ، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه ; فدل على استشعار الراغب هذا المعنى ; إذ لم يأت في الغالب إلا ربنا ربنا كقوله : ربنا لا تؤاخذنا [ البقرة : 286 ] ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] [ ص: 203 ] رب إني نذرت لك ما في بطني [ آل عمران : 35 ] رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] ومنها : كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد وإصلاحها ; فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان ، قائلا : يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا ، وهو مقتضى ما يدعو به ، وإنما أتى اللهم في مواضع قليلة ، ولمعان اقتضتها الأحوال ومنها : تقديم الوسيلة بين يدي الطلب ; كقوله : إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم الآية [ الفاتحة : 5 6 ] ربنا إننا آمنا [ آل عمران : 16 ] ربنا آمنا بما أنزلت [ آل عمران : 53 ] ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك [ آل عمران : 191 ] ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة الآية [ يونس : 88 ] رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده إلى قوله : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ نوح : 21 28 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير .

ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال ، والتخلق [ ص: 204 ] بالصفات ، تضاف إلى ما هنا ، وقد تقدم أيضا منه جملة في كتاب المقاصد والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ، ويصححها نصوص الآيات والأخبار .

وقسم هو المقصود الأول بالذكر ، وهو الذي نبه عليه العلماء ، وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها ، على حسب ما أداه اللسان العربي فيه ، وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول : أحدها : معرفة المتوجه إليه ، وهو الله المعبود سبحانه والثاني : معرفة كيفية التوجه إليه والثالث : : معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود ، عبر عنه قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] فالعبادة هي المطلوب الأول غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود ; إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها ، فإذا عرف - ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه توجه الطلب ; إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد ; فجيء بالجنس الثاني [ ص: 205 ] ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات ، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين ، بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية ، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف ، وأن الدنيا ليست بدار إقامة ، وإنما الإقامة في الدار الآخرة .

فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال ، ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات ; لأنها الوسائط بين المعبود والعباد ، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا ، ويتكمل بتقرير البراهين ، والمحاجة لمن جادل خصما من المبطلين .

والثاني : يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات ، وما يتبع كل واحد منها من المكملات ، وهي أنواع فروض الكفايات ، وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به .

والثالث : يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن : الموت وما يليه ، ويوم القيامة وما يحويه ، والمنزل الذي يستقر فيه ، ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب ، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم ، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم [ ص: 206 ] وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما ، وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام : ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة ، وثلاثة هي توابع ومتممة .

فأما الثلاثة الأول ; فهي تعريف المدعو إليه ، وهو شرح معرفة الله تعالى ، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال ، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم ، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة ، والتزكية عن الأخلاق الذميمة ، وتعريف الحال عند الوصول إليه ، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب ، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة .

وأما الثلاثة الأخر ; فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة ، وذلك قصص الأنبياء والأولياء ، وسره الترغيب ، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله ، وسره الترهيب ، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة ، وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه ، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام بما لا يليق به ، وادكار عاقبة الطاعة والمعصية وسره في جنبة الباطل التحذير والإفضاح ، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح والتعريف بعمارة منازل الطريق ، وكيفية أخذ [ ص: 207 ] الأهبة والزاد ، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة ، وهي : ذكر الذات ، والصفات ، والأفعال ، والمعاد ، والصراط المستقيم ، وهو جانب التحلية والتزكية ، وأحوال الأنبياء ، والأولياء ، والأعداء ، ومحاجة الكفار ، وحدود الأحكام .

التالي السابق


الخدمات العلمية