صفحة جزء
[ ص: 261 ] المسألة الثانية عشرة

ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال ، وعليه أكثر السلف المتقدمين ، بل ذلك شأنهم ، وبه كانوا أفقه الناس فيه ، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه .

وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال : إما على الإفراط ، وإما على التفريط ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء وهو العربية فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا ، كما تقدم عن الباطنية وغيرها ، ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء .

والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى ، وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية ، وأن ما لم يكن معهودا عند العرب فلا يعتبر فيها ، ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها ، ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة ، فما وراء ذلك إن [ ص: 262 ] كان مقصودا لها ; فبالقصد الثاني ، ومن جهة ما هو معين على إدارك المعنى المقصود ، كالمجاز والاستعارة والكناية ، وإذا كان كذلك ; فربما لا يحتاج فيه إلى فكر ، فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر ; خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف ، وذلك ليس من كلام العرب ، فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى .

وأيضا ; فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب ، من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه ، وذلك أنه إعذار وإنذار ، وتبشير وتحذير ، ورد إلى الصراط المستقيم فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد ، باذلا غاية الطاقة في الموافقات ، هاربا بالكلية عن المخالفات ، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها ، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد ، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ ، والمعنى المقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه ؟ .

كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة ، بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به ، هذا لا يرتاب فيه عاقل .

ولا يصح أن يقال : إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء ; فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره ؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون الاشتغال بالمعنى المقصود لا ينكر في الجملة ، وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه [ ص: 263 ] وليس كذلك باتفاق العلماء .

لأنا نقول : ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق ، كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه ؟ وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط ، الذي يشك في كونه مراد المتكلم أو يظن أنه غير مراد ، أو يقطع به فيه ; لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة ; فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة : من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ الكهف : 104 ] أو قولي : قال إني لعملكم من القالين [ الشعراء : 168 ] فإن في دعوى مثل هذا على القرآن ، وأنه مقصود للمتكلم به خطرا ، بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [ النور : 15 ] وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي ، وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى : أو لامستم النساء [ المائدة : 6 ] وقوله : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] [ ص: 264 ] وما أشبه ذلك ; فإنه شائع في كلام العرب ، مفهوم من مساق الكلام ، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة ، والتجنيس ونحوه ليس كذلك وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه ; إذ ليس في التجنيس ذلك ، والشاهد على ذلك ندوره من العرب الأجلاف البوالين على أعقابهم كما قال أبو عبيدة ، ومن كان نحوهم ، وشهرة الكناية وغيرها ، ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به ; فالحاصل أن لكل علم عدلا وطرفا إفراط وتفريط ، والطرفان هما المذمومان ، والوسط هو المحمود .

التالي السابق


الخدمات العلمية