صفحة جزء
[ ص: 294 ] المسألة الثانية

رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور : أحدها : أن الكتاب مقطوع به ، والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب ; فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ; فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .

[ ص: 295 ] [ ص: 296 ] والثاني : أن السنة إما بيان للكتاب ، أو زيادة على ذلك ، فإن كان بيانا ; فهو ثان على المبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين ، وما شأنه هذا ; فهو أولى في التقدم ، وإن لم يكن بيانا ; فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب .

[ ص: 297 ] [ ص: 298 ] والثالث : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار ; كحديث معاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، الحديث [ ص: 299 ] [ ص: 300 ] [ ص: 301 ] [ ص: 302 ] [ ص: 303 ] [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] [ ص: 306 ] وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح : إذا أتاك أمر ; فاقض بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ; فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ [ ص: 307 ] وفي رواية عنه : إذا وجدت شيئا في كتاب الله ; فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره .

وقد بين معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله ; فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله ; فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومثل هذا عن ابن مسعود : من عرض له منكم قضاء ; فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ; فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 308 ] الحديث وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن شيء ; فإن كان في كتاب الله قال به ، وإن لم يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وهو كثير في كلام السلف والعلماء .

وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب [ ص: 309 ] على اعتبار السنة ، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة ، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة ، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار .

فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون : أما أولا ; فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة ; لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما ; فيرجع إلى السنة ، ويترك مقتضى الكتاب .

وأيضا ; فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره ، وهذا دليل على تقديم السنة ، وحسبك أنها تقيد مطلقه ، وتخص عمومه ، وتحمله على غير ظاهره ، حسبما هو مذكور في الأصول ; فالقرآن آت بقطع كل سارق ; فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز ، وأتى بأخذ الزكاة من [ ص: 310 ] جميع الأموال ظاهرا ; فخصته بأموال مخصوصة ، وقال تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ; فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ; فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه ، ومثل ذلك لا يحصى كثرة .

وأما ثانيا ; فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول : هل يقدم الكتاب على السنة ، أم بالعكس ، أم هما متعارضان ؟ [ ص: 311 ] وقد تكلم الناس في حديث معاذ ، ورأوا أنه على خلاف الدليل ; فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة ، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب ، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ، ولذلك وقع الخلاف ، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب ، فإذا كان الأمر على هذا ; فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب ، بل المتبع الدليل .

فالجواب : إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب ، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب ; فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ، ودل على ذلك قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فإذا حصل بيان قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] بأن القطع من الكوع ، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله ; فذلك هو المعنى المراد من الآية ، لا أن نقول : إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب ، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين [ ص: 312 ] معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه ; فلا يصح لنا أن نقول : إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام .

وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى ، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله واحتماله ، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه .

وأما خلاف الأصوليين في التعارض ; فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول ، وإلا فالتوقف ، وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني [ ص: 313 ] كلي ، وتبين معنى هذا الكلام هنالك ، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية ، والخبر معارضة أصلين قرآنيين ، فيرجع إلى ذلك ، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة ، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين ، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية ; فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق .

وأيضا ; فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة ; فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ، ولا كبير جدوى فيه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية