صفحة جزء
[ ص: 106 ] فصل

فإن قيل : فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي ؟ فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف; فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها; فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف ، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ، ألا تراهم يقولون : كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق ، وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبيرة الإحرام; فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول [ ص: 107 ] من قال : إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام ، وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها; فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها ، ومثله جار في عقود البيع وغيرها ، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده ، ويعللون التفرقة بالخلاف; فأنت تراهم يعتبرون الخلاف ، وهو مضاد لما تقرر في المسألة .

فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة ، منهم ابن عبد البر فإنه قال : الخلاف لا يكون حجة في الشريعة ، وما قاله ظاهر; فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين ، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف ، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم .

وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم; فمنهم من تأول [ ص: 108 ] العبارة ولم يحملها على ظاهرها ، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها ، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ، ويكون هو الراجح ، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف; فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر; فالأول فيما بعد الوقوع; والآخر فيما قبله ، وهما مسألتان مختلفتان; فليس جمعا بين متنافيين ، ولا قولا بهما معا ، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس ، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي ، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف ، وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله .

[ ص: 109 ] على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام ، وذكر اعتباره عن الشيرازي ، واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ولو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده يطهر بالدباغ ، لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط .

وما قاله غير ظاهر لأمرين :

أحدهما : أن هذا الدليل مشترك الإلزام ، ومنقلب على المستدل به; إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ثم يقول : لو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده لا يطهر بالدباغ; لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق [ ص: 110 ] الحكم عليه بالاستنباط ، ويكون هذا القلب أرجح; لأنه مائل إلى جانب الاحتياط ، وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه .

والثاني : أنه ليس كل جائز واقعا ، بل الوقوع محتاج إلى دليل ، ألا ترى أنا نقول : يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء ، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج ، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين ، وما أشبه ذلك ، ولا يكون هذا التجويز سببا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط; فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال .

فإن قال : إنما أعني ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه ، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل .

قيل : لم تفصل أنت هذا التفصيل ، وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه ، كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون [ ص: 111 ] الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم ، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى .

واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم ، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته ، قال الباجي : ذلك غير ممتنع كالإجماع; فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا .

[ ص: 112 ] وأيضا فمعنى قولنا : إنه مختلف فيه ، أنه يسوغ فيه الاجتهاد ، وهذا كان حاله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم على علته .

والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم ، بل هو أصل الحكم ، وقوله : إن معنى قولنا مختلف فيه كذا ، هي عين الدعوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية