صفحة جزء
[ ص: 124 ] المسألة الخامسة

الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص; فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة .

والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية ، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية ، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا [ ص: 125 ] يمكن التفاهم فيما بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه .

وأما المعاني مجردة; فالعقلاء مشتركون في فهمها ، فلا يختص بذلك لسان دون غيره ، فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام ، وبلغ فيها رتبة العلم بها ، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي; فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية ويعتبرون المعاني ولا يعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل .

وأيضا; فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا [ ص: 126 ] فيما يتعلق بالمقيس عليه ، وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما ، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي .

وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين; كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك ، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي في مذهب الشافعي فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم ، وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة ، ويفرعون المسائل ، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك .

وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم ، وعملوا على مقتضاها ، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته ، وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع [ ص: 127 ] الأحكام ولولا ذلك; لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص ، فلما لم يكن شيء من ذلك; دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه ، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه ، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين ، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية