صفحة جزء
فصل

ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة ، منها ما يكون متفقا عليه - ومنها ما يختلف فيه .

- فمنها : الخطأ والنسيان ; فإنه متفق على عدم المؤاخذة به ، فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفي عنه ، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا ; لأنها إن لم تكن منهيا عنها ، ولا مأمورا بها ، ولا مخيرا فيها - فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع ، وهو معنى العفو ، وإن تعلق بها الأمر والنهي ؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي ، والقدرة على الامتثال ، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال ، ومثل ذلك النائم ، والمجنون ، والحائض ، وأشباه ذلك .

- ومنها : الخطأ في الاجتهاد ، وهو راجع إلى الأول ، وقد جاء [ ص: 260 ] في القرآن عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .

وقال لولا كتاب من الله سبق الآية [ الأنفال : 68 ] .

- ومنها : الإكراه ، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه ، إذا قلنا بجوازه فهو راجع إلى العفو ، كان الأمر والنهي باقيين عليه أو لا ; فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك ، وفعله لما فعل - لا حرج عليه فيه .

- ومنها : الرخص كلها على اختلافها ; فإن النصوص دلت على ذلك ؛ حيث نص على رفع الجناح ، ورفع الحرج ، وحصول المغفرة ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة ; لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال ، وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب ، فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلابد أن يكون نقيضه ، وهو الترك ، معفوا عنه ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما ، وهو محال ، ومرفوع عن الأمة .

- ومنها : الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ، ولم يمكن الجمع ، فإذا ترجح أحد الدليلين كان مقتضى المرجوح في حكم العفو ; لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح ، فيؤدي إلى رفع أصله ، وهو ثابت بالإجماع ، ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين ، وهو باطل ، وسواء علينا أقلنا ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح ، وإنه في حكم الثابت ، أم قلنا : إنه في حكم العدم ؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو .

- ومنها : العمل على مخالفة دليل لم يبلغه أو على موافقة دليل بلغه ، وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح ; لأن الحجة لم تقم عليه بعد ; إذ لا [ ص: 261 ] بد من بلوغ الدليل إليه ، وعلمه به ، وحينئذ تحصل المؤاخذة به ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق .

- ومنها : الترجيح بين الخطابين عند تزاحمهما ، ولم يمكن الجمع بينهما ، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم ; لأنه الممكن في التكليف بهما ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وهو مرفوع شرعا .

- ومنها : ما سكت عنه فهو عفو ; لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته ، فهو دليل على العفو فيه ، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية