صفحة جزء
فصل

ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :

أحدها : السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : من [ ص: 388 ] أبي ؟ وروي في التفسير أنه - عليه الصلاة والسلام - سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : يسألونك عن الأهلة الآية إلى قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين .

والثاني : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كما سأل رجل عن الحج : أكل عام ؟ مع أن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه ، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] .

والثالث : السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : ذروني ما تركتكم وقوله : وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها .

[ ص: 389 ] والرابع : أن يسأل عن صعاب المسائل ، وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات .

والخامس : أن يسأل عن علة الحكم ، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى ، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة .

والسادس : أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] ولما سأل الرجل : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ قال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع ، وترد علينا ، الحديث .

[ ص: 390 ] والسابع : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقي أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالما بالسنة ، أيجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبلت منه ، وإلا سكت .

والثامن : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه الآية [ آل عمران : 7 ] .

وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات ، أسرع [ ص: 391 ] التنقل .

ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة .

والتاسع : السؤال عما شجر بين السلف الصالح ، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين ، فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن يلطخ بها لساني .

[ ص: 392 ] والعاشر : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام ، وفي القرآن في ذم نحو هذا : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام [ البقرة : 204 ] .

وقال : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] .

وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .

هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحدا ، بل فيها ما تشتد كراهيته ، ومنها ما يخف ، ومنها ما يحرم ، ومنها ما يكون محل اجتهاد ، وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين ، كما جاء : " إن المراء في القرآن كفر " .

وقال تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية [ الأنعام : 68 ] .

وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث ، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه ، والجواب بحسبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية