صفحة جزء
[ ص: 406 ] المسألة الخامسة

الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية ، أو في جزئياتها الفرعية ، وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر ، فأما المجتهد الناظر لنفسه ، فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه ، إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ، ضرورية كانت أو نظرية ، عقلية أو سمعية ، وأما الفروع ، فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه ، فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ، ولا يفتقر إلى مناظرة ؛ لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي ، وهو ثان عن نظره في الكلي الذي ينبني عليه ، وإما نظر في كلي ابتداء ، والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء ، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك .

وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد ؛ لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده ، فلا يحتاج إلى غيره فيها ، وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه ، فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة .

وأيضا ، فالمجتهد أمين على نفسه ، فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ، ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته ؛ إذ هو عنده مجتهد مقبول القول ، فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة .

[ ص: 407 ] وهنا أمثلة كثيرة ، كمشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمرالمدينة ، فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال ، لم يبغ به بدلا ، ولم يستشر غيرهما ، وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة ، فلما أنزل الله الحكم ، لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ، ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم ، فكلمه عمر في ذلك ، فلم [ ص: 408 ] يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال ؛ إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه ، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة ، إلا من باب الاحتياط ، وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه ، وعند ذلك يلزمه أحد أمرين :

إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين ؛ إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق .

وإما الاستعانة بمن يثق به ، وهو المناظر المستعين ، فلا يخلو أن يكون [ ص: 409 ] موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أو لا .

فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به ؛ لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها ، والأمر سهل فيها ، فإن اتفقا فحسن ، وإلا فلا حرج ؛ لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ، ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه .

وأمثلة هذا الأصل كثيرة ، يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسائل المشكلة عليهم ، كما في سؤالهم عند نزول قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] .

وعند نزول قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] .

وسؤال ابن أم مكتوم حين نزل : لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية [ النساء : 95 ] حتى نزل : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] .

وسؤال عائشة عند قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب [ ص: 410 ] عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] .

وأشباه ذلك .

وإنما قلنا : إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين ؛ لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة ، فلما نظروا أشكل عليهم الأمر ، بخلاف السائل عن المحكم ابتداء ، فإن هذا من قبيل المتعلمين ، فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ، ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر ، فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم ، كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه بالكوكب والقمر والشمس ، فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة ، وكذلك قوله في الآية الأخرى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 70 - 71 ] .

فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ الشعراء : 72 - 73 ] فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء .

[ ص: 411 ] ومثله قوله : بل فعله كبيرهم الآية [ الأنبياء : 63 ] .

وقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] .

وقوله : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى الآية [ يونس : 35 ] .

وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها [ الأعراف : 195 ] إلى آخرها .

فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر ، وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم ؛ إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته ، فكان أبلغ في المقصود في المواجهة بالتبكيت ، ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل ، كقوله تعالى : أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم [ الأنبياء : 24 ] .

قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ يونس : 59 ] .

ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ المؤمنون : 117 ] .

[ ص: 412 ] وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن .

وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة ، فلا يستقيم له الاستعانة به ، ولا ينتفع به في مناظرته ؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي ، وإذا خالف في الكلي ، ففي الجزئي المبني عليه أولى ، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه ، فالاستعانة مفقودة .

ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه ، كالأرز ، والدخن ، والذرة ، والحلبة ، وأشباه ذلك ، فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس ؛ لأنه بان على نفي القياس جملة ، وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين ؛ إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه ، وكذلك مسألة الحلبة ، والذرة ، أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي ، وإن قالوا بصحة القياس ؛ لبنائهما المسألة على خلاف ما يبني عليه المالكي ، وهذا القسم شائع في سائر الأبواب ، فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع ، والمنكر [ ص: 413 ] لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر ، والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة .

فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة ، كما إذا كان مساعدا حقيقة ، وهذا لا يخفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية