صفحة جزء
المسألة الخامسة

إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب ، فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق ، وله القصد إليه .

أما الأول : فما تقدم يدل عليه .

فإذا قيل لك : لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها ؟

قلت : لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال ; فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به ، كما أنه أمرني أن أصلي ، وأصوم ، وأزكي ، وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها .

فإن قيل لك : إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح .

قلت : نعم ، وذلك إلى الله لا إلي ; فإن الذي إلي التسبب ، وحصول [ ص: 314 ] المسببات ليس إلي ، فأصرف قصدي إلى ما جعل إلي ، وأكل ما ليس لي إلى من هو له .

ومما يدل على هذا أيضا أن السبب غير فاعل بنفسه ، بل إنما وقع المسبب عنده لا به ، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب ، والعبد مكتسب له والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .

الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ الزمر : 62 ] .

وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] .

ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] .

وفي حديث العدوى قوله عليه الصلاة والسلام : فمن أعدى الأول ؟ ، وقول عمر في حديث الطاعون : " نفر من قدر الله إلى قدر الله " حين قال له عمرو بن العاص : " أفرارا من قدر الله " ، وفي الحديث : جف القلم بما هو [ ص: 315 ] كائن ، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك ، لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه .

والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه ; فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون ، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون ، فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون ، وقد لا يكون ، ونقض مجاري العادات دليل على ذلك ، وأيضا ; فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد [ ص: 316 ] المسبب .

فإن قيل : قصد الشارع إلى المسببات ، والتفاته إليها ، دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف ، وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع ; إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه من هذا الكتاب ، فإذا طابقه صح ، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات ، وقد فرضناها مقصودة للشارع ; كان بذلك مخالفا له ، وكل تكليف قد خالف القصد فيه قصد الشارع فباطل ، كما تبين فهذا كذلك .

فالجواب : أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب ، وليس كذلك ; لما مر أن المسببات غير مكلف بها ، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق ، وهو أن يكون خلق المسببات على أثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ، ويشقى من شقي ، فإذا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له [ ص: 317 ] بالقصد التكليفي ; فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل ، ولا دليل عليه ، بل لا يصح ذلك لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير ، ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنه غير مكلف بفعل الغير ، وإنما يكلف بما هو من فعله ، وهو السبب خاصة ; فهو الذي يلزم القصد إليه أو يطلب القصد إليه ، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع .

التالي السابق


الخدمات العلمية