صفحة جزء
المسألة السابعة

الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أو لا .

فإن كان منهيا عنه فلا إشكال في طلب رفع [ ذلك ] التسبب ; سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا ; فإنه يتأتى منه الأمران فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح فيقع ، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع على مقتضى العادة لا على مقتضى الشرع ، وقد لا يقع ألبتة ، وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب ، والالتفات إليه ; لعارض يطرأ غير العارض المتقدم الذكر ، ولا اعتبار به .

وإن كان غير منهي عنه فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها .

أما الأولى ; فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة ; [ ص: 328 ] فاعتقاد المعتقد ـ لكون السبب هو الفاعل ـ معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب فلا يبطله ، إلا إن قيل : إن مثل هذه المقارنة مفسدة ، وإن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه ; كالصلاة في الدار المغصوبة ، والذبح بالمدية المغصوبة ، وذلك مبين في الأصول .

وأما الثانية : فظاهر أن التسبب صحيح ؛ لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات ، وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها ، وغلب على الظن ذلك ، كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو ، وكذلك إذا بلغ مبلغ القطع العادي فواجب عليه أن يتسبب ، ولأجل هذا قالوا في المضطر : إنه إذا خاف الهلكة ، وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها ، ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت ، ولذلك قال مسروق : " ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار " .

وأما الثالثة : فالتسبب أيضا ظاهر ، إلا أنه يبقى فيها بحث : هل يكون صاحبها بمنزلة صاحب المرتبة الثانية أم لا ؟ هذا مما ينظر فيه ، وإطلاق كلام الفقهاء يقتضي عدم التفرقة ، وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضي ذلك ، هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم ، كطريقة الفقهاء على تفصيل له في ذلك ، فالذي يظهر في المسألة نظر آخر ، وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية ، وتكون حالية ، والفرق بين العلم [ ص: 329 ] والحال معروف عند أهله ، فإذا كانت علمية ، فهي المرتبة الثانية ; إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها ، وإنما الفاعل فيها مسببها سبحانه ، لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة ، وقد يخرقها إذا شاء لمن شاء ، فمن حيث كانت عادة اقتضت الدخول في الأسباب ، ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات ، اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها ، فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين ; فإن غلب الطرف الأول ، وهو العادي فهو ما تقدم ، وإن غلب الثاني فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة ; فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة فسواء عليه أتسبب أم لا ; إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى فلم يغلب على ظنه ـ والحال هذه ـ أن تركه للسبب إلقاء باليد إلى التهلكة ، بل عقده في كلتا الحالتين واحد ، فلا يدخل تحت قوله : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ; فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك ; لأن علمه [ ص: 330 ] بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعين ، بل السبب وعدمه في ذلك سواء ، فكما أن أخذه للسبب لا يعد إلقاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب ، كذلك في الترك ، ولو فرض أن آخذ السبب أخذه بإسقاط الاعتماد على المسبب لكان إلقاء باليد إلى التهلكة ; لأنه اعتمد على نفس السبب ، وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه ، وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا ; فكذلك إذا ترك السبب لا لشيء ، فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان ، وحقائق الإيقان .

وكل أحد فقيه نفسه ، وقد مر الدليل على ذلك ، وقد قال في الحديث : جف القلم بما هو كائن ، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وحكى عياض عن الحسن بن نصر السوسي ـ من فقهاء المالكية ـ أن ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر : يا أبت اشتر طعاما ; فإني أرى السعر قد غلا ، فأمر ببيع ما كان في داره من الطعام ، ثم قال لابنه : لست من المتوكلين على الله ، وأنت قليل اليقين ، كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك ، من توكل على الله ; كفاه الله .

ونظير مسألتنا في الفقه ; الغازي إذا حمل وحده على جيش الكفار ، [ ص: 331 ] فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة أو الهلكة أو يقطع بإحداهما ; فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل ، والذي اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك ، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] .

وكذلك ; داخل المفازة بزاد أو بغير زاد ، إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام ، وإن غلب على ظنه الهلكة لم يجز ، وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت أمر بالتأخير ولا يتيمم ، فإن غلب على ظنه أن لا ماء يتيمم وكذلك راكب البحر ، وعلى هذا يباح له التيمم مع وجود الماء في رحله أو يمنع ، وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت ، وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم أفطر ، إلى غير ذلك من المسائل المبنية على غلبات الظنون ، وإن كانت موجبات الظنون تختلف ; فذلك غير قادح في هذا الأصل ، فمسألتنا داخلة تحت هذه القاعدة .

فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال : إنه لا يجب عليه التسبب فيه ، ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ، ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة ; فلا يكون كذلك ، بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر ، وأسباب الهلكة ، يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن ، وأسباب النجاة .

[ ص: 332 ] وقد حكى عياض عن أبي العباس الإبياني أنه دخل عليه عطية الجزري العابد فقال له : أتيتك زائرا ، ومودعا إلى مكة ، فقال له أبو العباس : " لا تخلنا من بركة دعائك وبكى ، وليس مع عطية ركوة ولا مزود ، فخرج مع أصحابه ، ثم أتاه بأثر ذلك رجل ; فقال له : ـ أصلحك الله ـ عندي خمسون مثقالا ، ولي بغل فهل ترى لي الخروج إلى مكة ؟ فقال له : لا تعجل حتى توفر هذه الدنانير . قال الراوي : فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما ; فقال أبو العباس : عطية جاءنى مودعا غير مستشير وقد وثق بالله ، وجاءني هذا يستشيرني ، ويذكر ما عنده ، فعلمت ضعف نيته ، فأمرته بما رأيتم " .

فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب ، والنظر في مراعاتها ، وسلم لقوي اليقين في طرح الأسباب بناء ـ والله أعلم ـ على القاعدة المتقدمة في الاعتقادات ، وغلبات الظنون في السلامة ، والهلكة ، وهو مظان النظر الفقهي ، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة كما تقدم .

فإن قيل : فصاحب هذه المرتبة أي الأمرين أفضل له ؟ الدخول في السبب ، أم تركه ؟

[ ص: 333 ] فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الأسباب في حقه لا بد منها كما أنها كذلك في حق غيره ; فإن خوارق العادات ، وإن قامت له مقام الأسباب في حقه ، فهي في أنفسها أسباب ، لكنها أسباب غريبة ، والتسبب غير منحصر في الأسباب المشهورة ، فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لا يحتسب ، إما من نبات الأرض ، وإما من جهة من يلقى من الناس في البادية ، وفي الصحراء ، وإما من حيوان الصحراء أو من غير ذلك ، ولو أن ينزل عليه من السماء ، أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية ، يعرفها أربابها المخصوصون بها ، فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب ، ومنها الصلاة ; لقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية [ طه : 132 ] .

وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا ، وإذا كان كذلك ; فالسؤال غير وارد .

[ ص: 334 ] والثاني ـ على تسليم وروده ـ : أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة ، واستيقنوها حالا وعلما ، ولكنه عليه السلام ندبهم إلى الدخول في الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا ، كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة ، ولم يتركهم مع هذه الحالة فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه ، ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقوم فيه ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : قيدها وتوكل ؟

وأيضا ; فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات ، ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وكانوا أهل علم ، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره .

وأما المرتبة الرابعة ، وهي مرتبة الابتلاء فالتسبب فيها أيضا ظاهر ; فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق ، لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية ، فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذي سببها من حيث كانت مصروفة إليه ، كذلك الأسباب العادية ، ومن هنا لما قال عليه السلام : ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ، قالوا : يا رسول الله فلم نعمل ؟ أفلا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ فأما من أعطى واتقى [ الليل : 5 ] إلى آخرها فكذلك العاديات ; لأنها عبادات ، فهي عنده جارية على الأحكام [ ص: 335 ] الموضوعة ، ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في العبادات ، يعتبر فيها مجرد الأسباب ، ويدع المسببات لمسببها .

وأما المرتبة الخامسة : فالتسبب فيها صحيح أيضا ; لأن صاحبها ، وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب ، ولا إلى المسبب من باب أحرى ; فلا بد منه من جهة ما هو راق به ، وملاحظ للمسبب من جهته ، بدليل الأسباب العبادية ، ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها ، فلا فارق بين العاديات والعباديات ; إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على الجملة ; فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري ، واقتصر على ما هو ضروري ، وضيق على نفسه المجال فيها ; فرارا من تكاثرها على قلبه حتى يصح له اتحاد الوجهة ، وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب ، فلا شك في أخذها في هذه الرتبة ; إذ من جهتها يصح المطلوب .

وأما السادسة ; فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها ، كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها ; غير أن ذلك فيها معتبر من جهة صفة العبودية وامتثال الأمر ، لا من جهة أمر آخر ، فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها ; كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله ، فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه ، كان قصده في امتثال الأمر شاملا له ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية