صفحة جزء
فصل

- ومنها : أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس ساكن البال مجتمع الشمل ، فارغ القلب من تعب الدنيا ، متوحد الوجهة ، فهو بذلك طيب المحيا ، مجازى في الآخرة ، قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ النحل : 97 ] .

[ ص: 350 ] وروي عن جعفر الصادق أنه قال في الحياة الطيبة : " هي المعرفة بالله ، وصدق المقام مع الله ، وصدق الوقوف على أمر الله " .

وقال ابن عطاء : " العيش مع الله ، والإعراض عما سوى الله " .

وأيضا ; ففيه كفاية جميع الهموم بجعل همه هما واحدا ، بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب ; فإنه ناظر إلى كل مسبب في كل سبب يتناوله ، وذلك مكثر ، ومشتت .

وأيضا ; ففي النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال ، وإذا أنتج فليس على وجه واحد ، فصاحبه متبدد الحال ، مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان ، فتراه يعود تارة باللوم على السبب ، وتارة بعدم الرضى بالمسبب ، وتارة على غير هذه الوجوه ، وإلى هذا النحو يشير معنى قوله عليه الصلاة والسلام : لا تسبوا الدهر ; فإن الله هو الدهر ، وأمثاله .

[ ص: 351 ] وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره ، فمشتغل بأمر واحد ، وهو التعبد بالسبب أي سبب كان ، ولا شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة ، بل هم واحد ثابت خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه ، وقد جاء أن : " من جعل همه هما واحدا كفاه الله سائر الهموم ، ومن جعل همه أخراه كفاه الله أمر دنياه " .

[ ص: 352 ] ويقرب من هذا المعنى قول من قال : " من طلب العلم لله ; فالقليل من العلم يكفيه ، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة " .

وقد لهج الزهاد في هذا الميدان ، وفرحوا بالاستباق فيه حتى قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " .

وروي في الحديث : الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن . والزهد [ ص: 353 ] ليس عدم ذات اليد ، بل هو حال للقلب يعبر عنها ـ إن شئت ـ بما تقرر من الوقوف مع التعبد بالأسباب من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها في [ الأسباب ] ، فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية