صفحة جزء
( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) .

قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) .

في هذه الآية مسائل :

المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه :

الوجه الأول في تقرير هذا المطلوب أن نقول : هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته .

وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة .

أما المقام الأول فتقريره : أنه تعالى تمدح بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) وذلك مما يساعد الخصم عليه ، وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية .

وإذا ثبت هذا فنقول : لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها ، فثبت أن قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد المدح ، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية ، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته ، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه ، كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته .

وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، والدليل عليه أن القائل قائلان : قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته ؛ فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلا ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته ، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك ، وجب القطع بأن المؤمنين يرونه ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية ، وهذا استدلال لطيف من هذه الآية .

[ ص: 103 ]

الوجه الثاني : أن نقول المراد بالأبصار في قوله : ( لا تدركه الأبصار ) ليس هو نفس الإبصار ، فإن البصر لا يدرك شيئا البتة في موضع من المواضع ، بل المدرك هو المبصر ؛ فوجب القطع بأن المراد من قوله : ( لا تدركه الأبصار ) هو أنه لا يدركه المبصرون ، وإذا كان كذلك كان قوله : ( وهو يدرك الأبصار ) المراد منه وهو يدرك المبصرين ، ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء ، فكان هو تعالى من جملة المبصرين ؛ فقوله : ( وهو يدرك الأبصار ) يقتضي كونه تعالى مبصرا لنفسه ، وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته ، وكان تعالى يرى نفسه ، وكل من قال : إنه تعالى جائز الرؤية في نفسه ، قال : إن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، فصارت هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية ، وعلى أن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، وإن أردنا أن نزيد هذا الاستدلال اختصارا قلنا : قوله تعالى : ( وهو يدرك الأبصار ) المراد منه إما نفس البصر أو المبصر ، وعلى التقديرين : فيلزم كونه تعالى مبصرا لأبصار نفسه ، وكونه مبصرا لذات نفسه ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق .

الوجه الثالث : في الاستدلال بالآية أن لفظ " الأبصار " صيغة جمع دخل عليها الألف واللام ؛ فهي تفيد الاستغراق ؛ فقوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار ، فهذا يفيد سلب العموم ، ولا يفيد عموم السلب .

إذا عرفت هذا فنقول : تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ، ألا ترى أن الرجل إذا قال : إن زيدا ما ضربه كل الناس ، فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم .

فإذا قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما آمن به كل الناس ؛ أفاد أنه آمن به بعض الناس ، وكذا قوله : ( لا تدركه الأبصار ) معناه : أنه لا تدركه جميع الأبصار ، فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار ، أقصى ما في الباب أن يقال : هذا تمسك بدليل الخطاب ؛ فنقول : هب أنه كذلك ، إلا أنه دليل صحيح ؛ لأن بتقدير أن ، لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثا ، وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب .

الوجه الرابع في التمسك بهذه الآية : ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة ، واحتج عليه بهذه الآية فقال : دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال : إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه ؛ فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن التعويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية