صفحة جزء
ذكر أمر عبد الملك وزفر بن الحارث

قد ذكرنا في وقعة راهط مسير زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه ، والسبب في استيلائه عليها وما كان منه بعد ذلك ، وكان على بيعة ابن الزبير وفي طاعته . فلما مات مروان بن الحكم وولي ابنه عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص يأمره أن يسير إلى زفر ، فسار إليه وعلى مقدمته عبد الله بن زميت الطائي ، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان ، وكثر في أصحابه القتل ، قتل منهم ثلاثمائة ، فلامه أبان على عجلته ، وأقبل أبان فواقع زفر ، فقتل ابنه وكيع بن زفر ، وأدركت طيء ثقل زفر ونساءه ، فاستوهب محمد بن حصين بن نمير النساء وألحقهن بزفر بقرقيسيا ، فقال زفر :

علقن بحبل من حصين لو انه تغيب حالت دونهن المصائر     أبوكم أبونا في القديم وإنني
لغابركم في آخر الدهر شاكر



وكان يقال لزفر إنه من كندة .

ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا ، فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق ، فأمر زفر أن ينادي [ في ] عسكر عبد الملك : لم نصبتم علينا المجانيق ؟ قال : لنثلم ثلمة نقاتلكم عليها . فقال زفر : قولوا لهم : فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ، ولكنا نخرج إليكم . وثلمت المنجنيق من المدينة برجا مما يلي حريث بن بحدل ، فقال زفر :

لقد تركتني منجنيق ابن بحدل     أحيد عن العصفور حين يطير



[ ص: 389 ] وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجدا في قتالهم ، فقال رجل من أصحاب زفر من بني كلاب : لأقولن لخالد كلاما لا يعود إلى ما يصنع . فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة ، فقال له الكلابي : ماذا ابتغاء خالد وهمه إذ سلب الملك ونيكت امه

فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم .

وقالت كلب لعبد الملك : إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك ، فلا تخلطهم معنا . ففعل ، فكتبت القيسية على نبلها : إنه ليس يقاتلكم غدا مضري ، ورموا النبل إلى قرقيسيا ، فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل ، وبه كان يكنى ، وقيل : [ كان ] يكنى أبا الكوثر ، فقال : اخرج إليهم فشد عليهم شدة لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك ، والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك . فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم ، فصبروا قليلا ثم انكشفوا ، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها ثم رجعوا ، فقبل زفر رأس الهذيل وقال : لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبدا . فقال الهذيل : والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت . فقال زفر :

ألا لا أبالي من أتاه حمامه     إذا ما المنايا عن هذيل تجلت
تراه أمام الخيل أول فارس     ويضرب في أعجازها إن تولت



ولما ثلم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله : لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم . ففعل وقاتلهم ، فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم ، وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها ، فسأل أهله وقال : نشدتكم الله كم قتلنا منكم ؟ قالوا : والله لم يقتل منا أحد ، ولم يجرح إلا رجل واحد ، ولا بأس عليه . ثم قالوا : نشدناك الله كم قتل منكم ؟ قال : عدة فرسان ، وجرحتم ما لا يحصى ، فلعن الله ابن بحدل !

ورجع روح إلى عبد الملك وقال : إن ابن بحدل يمنيك الباطل ، فأعرض عن هذا الرجل .

وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر ، فقال زفر للهذيل ابنه [ ص: 390 ] أو لبعض أصحابه : أما تكفيني هذا ؟ قال : أنا أجيئك به . فدخل عسكر عبد الملك ليلا فجعل ينادى : من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا ؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه . فقال الرجل : رد الله عليك ضالتك . فقال : يا عبد الله ، إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلا . قال : ادخل ، فدخل والرجل وحده في خبائه ، فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء ، فقام إليه فأيقظه وقال : والله لئن تكلمت لأقتلنك . قال : قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي ؟ ( قال : لئن ) سكت وجئت معي إلى زفر ، فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليه . فخرجا وهو ينادي : من دل على بغل من صفته كذا وكذا ؟ حتى أتى زفر والرجل معه ، فأعلمه أنه قد آمنه ، فوهب له زفر دنانير ، وحمله على رحالة النساء ، وألبسه ثيابهن ، وبعث معه رجلا حتى دنوا من عسكر عبد الملك . فنادوا : هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك . وانصرفوا ، فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه ، وأخبروا عبد الملك الخبر ، فضحك وقال : لا يبعد الله رجلا نصر ، والله إن قتلهم لذل ، وإن تركهم لحسرة . وكف الرجل فلم يعد يسب زفر ، وقيل : إنه هرب من العسكر .

ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمدا أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما ومالهم ، وأن يعطيا ما أحبا . ففعل محمد ذلك ، فأجاب الهذيل وكلم أباه وقال له : لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس ، وهو خير لك من ابن الزبير . فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة ، وأن ينزل حيث شاء ، ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير . فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب ، فقال : قد هدم من المدينة أربعة أبراج . فقال عبد الملك : لا أصالحهم . وزحف إليهم ، فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم . فقال : أعطوهم ما أرادوا . فقال زفر : لو كان قبل هذا لكان أحسن . واستقر الصلح على أمان الجميع ، ووضع الدماء والأموال ، وأن لا يبايع عبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه ، وأن يعطى مالا يقسمه في أصحابه .

وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد ، فلم ينزل إليه ، فأرسل إليه بقضيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمانا له ، فنزل إليه ، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره ، فقال ابن عضاة الأشعري : أنا كنت أحق بهذا المجلس منه . فقال زفر : كذبت هناك ، إني [ ص: 391 ] عاديت فضررت ، وواليت فنفعت .

ولما رأى عبد الملك قلة من مع زفر قال : لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبدا حتى ينزل على حكمي . فبلغ قوله زفر فقال : إن شئت رجعنا ورجعت . فقال : بل نفي لك يا أبا الهذيل .

وقال له عبد الملك يوما : بلغني أنك من كندة . فقال : وما خير من لا يبغي حسدا ، ولا يدعي رغبة !

وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر ، فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس .

وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له : أنت لا عهد عليك . فسار معه ، فلما قارب مصعبا هرب إليه ، وقاتل مع ابن الأشتر ، فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فآمنه ، كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية