الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الكبر

الكبر


قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ) (الأعراف/146) ، وقال تعالى : (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر/35) وقال تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (النحل/23) ، وقال عز وجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/60) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ": يقول الله تعالى : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي " (رواه مسلم) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرًا" (رواه البخاري) .
وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنـًا ونعله حسنـًا ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس" (رواه مسلم) .
ومعنى بطر الحق : الاستنكاف عن قبوله ورده والنظر إليه بعين الاستصغار ، وذلك للترفع والتعاظم ، ومعنى غمط الناس : إزدراؤهم واحتقارهم.

بيان ما يتكبر به :
أولاً : العلم :
وما أسرع الكبر إلى بعض العلماء فلا يلبث أن يستشعر في نفسه كمال العلم ، فيستعظم نفسه ويحتقر الناس ويستجهلهم ويستخدم من خالطه منهم وقد يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم .
الثاني : الكبر بالحسب والنسب :
فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب ، وإن كان أرفع منه علمـًا وعملاً ، وهذا من فعل الجاهلية كما جاء أن أبا ذرٍ - رضي الله عنه - قال : قاولت رجلاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فعيرته بأمه فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال : " يا أبا ذر إنك امروء فيك جاهلية : هم إخوانكم "(رواه مسلم) .
الثالث : الكبر بالمال :
وذلك يجري بين الأغنياء في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيحتقر الغني الفقير ويتكبر عليه ، وكل ذلك جهل منهم بفضيلة الفقر وآفة الغنى .
الرابع : التكبر الأتباع والأنصار والعشيرة :
فهذه الأمور السابقة هي بعض ما يتكبر به الناس بعضهم على بعض ، نسأله تعالى العون بلطفه ورحمته .
واعلم أن التكبر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ، ونظره شزرًا ، وفي أقواله حتى في صوته ونغمته ، ويظهر في مشيته وتبختره ، وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته ، فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض ، فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أوبين يديه ، ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره خلفه ، ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته ، والتواضع خلافه : جاء أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيوف ، وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف : أقوم إلى السراج فأصلحه ؟ فقال : ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه ، قال : أفأنبه الغلام ؟ فقال : هي أول نومة نامها ، فقام وملأ المصباح زيتـًا فقال الضيف : قمت أنت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ذهبت وأنا عمر ، ورجعت وأنا عمر ، ما نقص مني شيء ، وخير الناس من كان عند الله متواضعـًا .
وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يقتدى به .

قال ابن أبي سلمة : قلت لأبي سعيد الخدري : ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم ؟ فقال : يا ابن أخي ، كل لله واشرب لله والبس لله ، وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهات أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف ، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، كان يحلب الشاة ، ويخصف النعل، ويرقع الثوب ، ويأكل مع خادمه ، ويشتري الشيء من السوق لا يمنعه الحياء أن يعلق الإناء بيده ، ويصافح الغني والفقير ، ويسلم مبتدئـًا على كل من استقبله من صغير أو كبير ، ويجيب إذا دُعيَ ولا يحقر ما دُعيَ إليه ، لين الخلق ، جميل المعاشرة ، طليق الوجه ، شديدًا في غير عنف ، متواضعـًا في غير مذلة ، جوادًا من غير سرف ، رقيق القلب ، زادت عائشة - رضي الله عنها - وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمتلئ قط شبعـًا ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وكان يقول : " البذاذة من الإيمان "(رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم ، وصححه الألباني) .
فقال هارون : سألت عن معنى البذاذة فقال : هو الدون من اللباس ، فمن طلب التواضع فليقتد به - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يرض لنفسه بذلك فما أشد جهله ، فلقد كان - صلى الله عليه وسلم - أعظم خلق الله في الدنيا والدين ، فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به .
قال كعب : ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجته في الآخرة .

الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع :
اعلم أن الكبر من المهلكات ، وإزالته فرض عين ، ولا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة ، وفي معالجته مقامان :

أحدهما : قطع شجرته من مغرسها في القلب .
الثاني : دفع العرض منه بالأسباب التي قد يتكبر بها .

المقام الأول : في استئصال أصله ، وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما إن شاء الله تعالى .
أما العلمي : فهو أن يعرف نفسه ويعرف صفات ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر ، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع ، وإذا علم صفات ربه عز وجل علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا لله عز وجل .

المقام الثاني : يدفع العارض منه بالأسباب التي ذكرناها ، فمن تكبر بنسبه فليداو قلبه بمعرفة أن هذا جهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره ، ولذلك قال الشاعر :
لَئِنْ فَخَرْتَ بَآبَاءٍ ذَوي نَسَبٍ لَقَدْ صَدَقْتَ وَلَكَنِ بِئْسَ مَا وَلَدُوا
ومن كان خسيسـًا فمن أين يجبر خسته ؟ بكمال غيره ، وبمعرفة نسبه الحقيقي - أعني أباه وجده - فإن أباه القريب وجده البعيد تراب ، ولقد عرَّف الله تعالى نسبه فقال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (السجدة/7 ، 8).

أما التكبر بالغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بالمناصب والولايات فكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان ، وهذا أقبح أنواع الكبر ، فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلاً ، وكم من اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل فأفٍ لشرف يسبقه به يهودي أو يأخذه سارق في لحظة فيعود ذليلاً مفلسـًا .

أما التكبر بالعلم والعبادة وهو أعظم الآفات فعلاجه بأمرين :
أحدهما : أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عُشْرُهُ من العالم ، فإن عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وخطره أعظم .
ثانيهمـا : أن يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده ، وأنه إذا تكبر صار عند الله ممقوتـًا بغيضـًا ، فهذا مما يزيل التكبر ويبعث على التواضع .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة