الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لبيك لا شريك لك

لبيك لا شريك لك

لبيك لا شريك لك

توحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه هو أساس الدين، وقطب رحاه الذي تدور عليه جميع العبادات والأعمال.

فمن أجل التوحيد خلق الله الخلق{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات:56)، قال ابن عباس : أي "ليوحدون"، ومن أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب قال سبحانه: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (النحل:36)، ومن أجله جردت سيوف الجهاد، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس إلى شقي وسعيد، وبر وفاجر، ولذا جاءت نصوص الشرع بتعظيم أمر التوحيد، والتحذير من أي شائبة تشوبه أو تخدش جنابه.

ومن أهم القضايا التي جاء الحج ليرسخها في القلوب، ويغرسها في النفوس قضية توحيد الله عز وجل، بل ما شُرع الحج، وما أمر الله ببناء البيت إلا من أجله، قال سبحانه: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } (الحج:26)، وحذر سبحانه في ثنايا آيات الحج من الشرك ورجسه، فقال سبحانه: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به } (الحج:30-31).

ولو تأملنا أعمال الحج لوجدنا العناية بالتوحيد ظاهرة جلية، فالتلبية -التي هي شعار الحج- تضمنت إعلان التوحيد، وإفراد الله وحده بالعبادة والتوجه والقصد، على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، حين كانوا يعلنون الشرك، ويجاهرون به في تلبيتهم، فيقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، يقول جابر رضي الله عنه، وهو يصف حجته صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: ( فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ).

وفي ركعتي الطواف يقرأ الحاج والمعتمر سورتي الكافرون والإخلاص؛ اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولأن فيهما إعلاناً للتوحيد وبراءة من الشرك وأهله، قال جابر رضي الله عنه: فقرأ فيهما بالتوحيد و{قل يا أيها الكافرون } رواه أبو داود ، وفي رواية: قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: { قل يا أيها الكافرون } و{قل هو الله أحد }.

وفي المواطن التي كان أهل الجاهلية يتخذونها محلاً للشرك وعبادة غير الله، حرص عليه الصلاة والسلام على إعلان التوحيد فيها، فدعا على الصفا والمروة بالتوحيد، يقول جابر رضي الله عنه: ( فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، قال مثل هذا ثلاث مرات، حتى أتى المروة ففعل كما فعل على الصفا ) رواه مسلم .

وفي يوم عرفة كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) رواه أحمد .

وحرص صلى الله عليه وسلم في حجته على مخالفة المشركين في كثير من شعائر الحج وأحكامه، فوقف مع الناس بعرفة، مخالفاً بذلك كفار قريش، الذين كانوا يقفون في المزدلفة، ويقولون: "لا نفيض إلا من الحرم". وأفاض من عرفة بعد غروب الشمس مخالفاً للمشركين، الذين كانوا يفيضون قبل غروبها، وكان أهل الجاهلية يدفعون من المشعر الحرام (المزدلفة) بعد طلوع الشمس، وكانوا يقولون: "أشرق ثبير كيما نغير"، فخالفهم عليه الصلاة والسلام، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وفي خطبته في حجة الوداع أبطل صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ورسومها، فقال: ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع )رواه مسلم .

فهذا كله يؤكد ارتباط هذه الشعيرة العظيمة بقضية التوحيد، فهل حقق معنى الحج من توجه إلى الموتى وأصحاب القبور بالدعاء والمسألة والذبح وغيرها من أنواع البدع، أو اعتقد أن أحداً يملك الضر والنفع مع الله عز وجل؟! وهو القائل سبحانه: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } (فاطر:13-14) ، هل فَقِه معنى الحج من تعلق بالسحرة والمشعوذين والدجالين ظناً منه أنهم يعلمون شيئاً من أمور الغيب؟! هل فَقِه معنى الحج من تحاكم إلى غير شرع الله، أو اعتقد أن أحداً غير الله يملك التشريع والتحليل والتحريم للناس؟! والله جل وعلا يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } (الشورى:21) ويقول: {ألا له الخلق والأمر } (الأعراف:54)، هل فَقِه معنى الحج من والى أعداء الله، أو تشبه بهم في خصائصهم وأخلاقهم وسلوكياتهم؟!

إن ذلك كله مما ينافي حقيقة هذه الشعيرة العظيمة، بل هو تناقض وازدواجية يجب على الحاج أن يتنزه عنها، فاجعل -أخي الحاج- قضية التوحيد نُصب عينيك وأنت تؤدي المناسك، حتى يكون حجك مبروراً وعملك صالحاً مقبولاً.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة