الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القدوة الحسنة

القدوة الحسنة

إن صلاح المؤمن هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان ، وخلقه الفاضل هو السحر الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب ، أتظن جمال الباطن أضعف أثرًا من وسامة الملامح ؟!! كلا .. إن طبيعة البشر محبة الحسن والالتفات إليه ، وأصحاب القلوب الكبيرة لهم من شرف السيرة وجلال الشمائل ما يبعث الإعجاب بهم والركون إليهم ، ومن ثم فإن الداعية الموفق الناجح هو الذي يهدي إلى الحق بعمله ، وإن لم ينطق بكلمة ؛ لأنه مثلٌ حيٌ متحرك للمبادئ التي يعتنقها ، وقد شكا الناس في القديم والحديث من دعاة يحسنون القول ويسيئون الفعل !!

والواقع أن شكوى الناس من هؤلاء يجب أن تسبقها شكوى الأديان والمذاهب منهم؛ لأن تناقض فعلهم وقولهم أخطر شغب يمس قضايا الإيمان ويصيبها في الصميم ، ولا يكفي - لكي يكون المرء قدوة - أن يتظاهر بالصالحات أو يتجمل للأعين الباحثة ، فإن التزوير لا يصلح في ذلك الميدان ، ولابد أن ينكشف المخبوء على طول المعاملة وامتداد الزمن وتمحيص الأحداث ، وسرعان ما يبدو معدن النفس على الحقيقة العارية ، ذلك أن النفس المتحركة من هذا الروح فهي كالآلة الدائرة مما يعمر خزانها ، أما النفس المحرومة من هذا الروح فهي كالآلة التي تدفع باليد حينـًا لا يلبث أن يغلبها العطل والعطب فتتوقف وتسكن ، والمصيبة الطامة أن بعض المنافقين يحسبون أن تمثيل دور الإيمان لا يحتاج إلا إلى شيء من التكلف والمصانعة ، كما أن بعض المتهاونين يحسبون أن لباس التقوى يمكن نسجه بشيء من إدمان الرسوم وإتقان الهمهمة ، وهذا ضلال بعيد ، فالأمر أخطر مما يظنون .

إن التدين الحقيقي صورة لجوهر النفس بعد ما استكانت لله ونزلت على أمره واصطبغت بالفضائل التي شرعها ، وترفعت عن الرذائل التي حرمها واستقامت على ذلك استقامة تامة .

هذا التدين وحده هو الذي تلتمس منه الأسوة ويقتبس منه الهدى ، ويؤسفني أن أقول : أن هذا الضرب من التدين العالي نادر الآن ، وأن أشعة الكمال المنبعثة من وهجه لا تكاد تُرى ، بل عن نفر من الناس الذين لا دين لهم أقرب إلى المسلك الصحيح وأجدر بالقوامة على شتى الوظائف من الذين انتسبوا إلى الدين ، وحملوا عنوانه دون اصطباغ به وتشرب لروحه !!

وعندما يُنكب الدين بأقوام كثيرين على هذا الغرار فالمجال واسع لشيوع الإلحاد وانتشار المعصية والعدوان .
قال لي صديق : إن فلانـًا " الأوروبي " إذا وكلت إليه مهمة خرجت من بين يديه متقنة الأداء ، ظاهرة الجودة ، أما فلان الذي يُكثر الصلاة فقلما يريحني في إحسان واجب " .

لقد جزعت لهذه المقابلة بين الشخصين ، ولم يسؤني منها أنها باطل - إذ هي حق - ، وإنما ساءني منها أن ذلك " التدين " الكسول دعاية شنيعة ضد الصلاة ، إنها القدوة الرديئة تعمل عملها ضد المثل الرفيعة والمبادئ الفاضلة ، وقد لاحظت أن الأجنبي - في أغلب الأحيان - يرى خدشـًا لكرامته وطعنـًا في كيانه أن يصدر العمل عنه ناقصـًا، فهو يجوده احترامـًا لنفسه ، وصيانة لشخصه ، على حين تجد مواطنـًا ينتمي إلى الدين - كما يزعم - ثم هو يقوم بالعمل على أسوأ الوجوه ويبسط لسانه بالجدل الطويل في تسويغه وإقناع الآخرين بقبوله !
ولعلنا لم ننس قصة المهندس الذي أشرف على بناء جسر السلطان أبي العلاء - وكان أجنبيـًا - فإنه لما رأى عمله لم يصل إلى درجة الكمال التي ينشدها رمى بنفسه من فوق الجسر العالي فهوى بين أمواج النيل ، وكاد اليم يبتلعه لولا إسعاف المنقذين .

لقد أحس غضاضة من أن يعيش بعدما فشل في إحسان العمل الذي كلف به ، إنما أثبت هذه القصة لأني أعرف أناسـًا مثله ، وقعوا في شر من تفريطه ، وخرج العمل من بين أيديهم مبتورًا مشوهـًا ، فلما عوتبوا شرع كل منهم يتنصل ويعتذر أو يهز كتفيه ملقيـًا العتبة على غيره .

ولعله بعد ذلك جلس إلى مكتبه يجرع القهوة في كبرياء !! أيصلح هؤلاء أمثلة للإسلام ؟! قل لي بالله : كيف يهوى سلوك الفرد منا إلى هذا الحد ثم ينتظر أن يُحترم الإسلام ويُقَبلُ عليه !!

إن الدعوة إلى الإسلام تكون أولاً بعرض ثماره في الأخلاق والأحوال ، أعني ثماره في أتباعه المؤمنين ، ويومئذٍ ترجى الإجابة ويرتقب الاهتداء .

ولنعد إلى أسباب انتشار الإسلام أيام السلف الصالح ، إن خلق الدولة ، وصلاح أنظمتها ، وكفالتها أكبر حظ من العدالة والسعادة للأفراد ، كان الباعث الأعظم على دخول الناس في دين الله أفواجـًا ، وقبولهم عن طيب خاطر ، الانضواء تحت راية الإسلام ، بل غبطتهم ؛ لأن دائرة هذا الدين بلغت في الرحابة حدًا جعلتهم يأوون إليها وهم وافرون أعزاء ، حتى أيام اضطراب أجهزة الحكم في الدولة الإسلامية وقصورها عن التحليق مع المثل الرفيعة التي نشدها الإسلام في اختيار الحكام .
إن هذا القصور لم يقدح في مدى الخير الذي يحرزه الناس - على اختلاف اللون والمذهب - تحت علم الدولة الجديدة ! ذلك أنه أعلى درجة ألف مرة من الخير الذي رأوه في ظل أكاسرة فارس وقياصرة الروم .

وحين تتابع أوصاف المسلمين الفاتحين - كما شرحها بعض المنصفين من المستشرقين - نجد أن الجماهير رمقت حملة العقيدة الظافرة بشيء من الدهشة ، ورأت فيهم نماذج خلابة للفضل والعدل ، فلم يمكثوا غير قليل حتى زاحموهم عليها !
أجل .. زاحموهم عليها ، ونافسوهم فيها ، واعتنقوها ليعملوا بها مثل أو أجل من أصحابها الذين نقلوها مصداق قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ((رُبَّ مبلغ أوعى من سامعٍ )) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه )) .

الإعجاب بالإسلام في أحوال الفرد ، والإعجاب بالإسلام في أحوال الدولة هو وحده السبب الفعال في تزاحم الخاصة والعامة على هذا الإسلام وارتضائهم له .

والإعجاب لا ينبت في النفس خبط عشواء ، أتظن العقول النضرة تعجب بالعقول الخرفة ؟ ، أتظن الأخلاق الرضية تعجب بالأخلاق الرديئة ؟ أتظن المتقدم في افكاره ومشاعره يعجب بالمتخلف في هذه وتلك .. كلا .. كلا .

إن المسلمين استحقوا أن يتأسى الناس بهم ، وان ينسجوا على منوالهم ، وأن يقلدوهم في أقوالهم وأعمالهم ، وأن يهجروا لغاتهم الأصلية إلى اللغة العربية الوافدة ؛ لأن المسلمين كانوا يمثلون في العالم نهضة مجددة راشدة مسعدة ، والمعجب بك قد يذوب فيك ، وذلكم هو ما حدث في ( المستعمرات ) التابعة من قرون للشرق والغرب ، أعني لـ " فارس " و " الروم " ، يوم زحفت عليها جيوش الإسلام ، وانساب في جنباتها .

إن من الغباء البالغ أن تنتظر أحدًا يؤمن بك عقب انتصار في معركة جدل ، أو انتصار في ميدان حرب .
إن المقهور في أحد الميدانين قد يستسلم راضيـًا أو ساخطـًا ، بيد أنه لن يتبعك عن إخلاص ، ولن يشاكك الشعور والفكر أبدًا ، ومن ثم نرى لزامـًا علينا التوكيد بأن القدوة وحدها ، وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب هما السبيل الممهدة لنشر الدعوة في أوسع نطاق .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة