الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

"جيش الدفاع" والبحث عن نصر وهمي في غزة

"جيش الدفاع" والبحث عن نصر وهمي في غزة

"جيش الدفاع" والبحث عن نصر وهمي في غزة

يبدو أن إسرائيل ستبقى طويلا تعيش الوهم بأن ذراعها الطويلة ستظل قادرة على الوصول إلى أي خصم في أي مكان من العالم، بعد أن نجحت خلال العقود السابقة في اصطياد من تبقّى من زعماء النازية ومحاكمتهم على الرغم من ذهاب ريح النازية قبل ذلك بزمن، وبعد نجاحها أيضًا في اغتيال العديد من القادة الفلسطينيين الكبار في لبنان وتونس وغزة وغيرها.

وقد تكون هذه الأوهام الصهيونية هي القائد غير المحسوس لـ "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلى وحل لبنان في الحرب الأخيرة مع حزب الله، دون إدراك منهم للتغيرات التي طرأت، ولا المعادلات التي تبدلت أطرافها، ولا تغيُّر مستوى الوعي لدى الخصم.

قراءة صهيونية خاطئة

إنها القراءة الخطأ للمشهد المعقد التي وقع فيها العرب من قبل فهُزموا، وتقع فيها إسرائيل اليوم فتُهزَم، وسيُهزَم أيضًا من يقع فيها غدًا: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).

وقد ركزت التحليلات السياسية لنتائج الحرب الأخيرة بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل، على أن الفشل الصهيوني في لبنان قد جر متاعب جمة لوزارة إيهود أولمرت، ولكن الحقيقة هي أنه جر متاعب مادية ونفسية أكثر على المواطن الإسرائيلي نفسه.

فقد تبخرت نظرية الأمن التي يعيش هذا المواطن تراوده أحلامها دائما، وبات في أزمة مركبة مع الحكومة التي اختارها وفشلت في مغامرتها في لبنان، ومع الخصم الذي امتلك على الحدود الشمالية أسلحة تطول الأعماق اليهودية، ولم يكتف بامتلاكها، ولكنه استخدمها، واستخدمها بصورة مؤلمة في ضرب العمق الإسرائيلي في مناطق حساسة جدا منه.

وإلى هذا الخطر الداهم -في الأساس- ترجع المساندة الشعبية الصهيونية لجيشها في حربه غير الأخلاقية على لبنان أرضا وشعبا.

نعم، فجّرت الحرب الأخيرة على لبنان أزمة نفسية عنيفة للمواطن الإسرائيلي، وفقأت فقاعة الأمن المزعوم التي يعيش في داخلها، بعد أن صُوِّر له جيرانه القريبون طوال العقود السابقة على أنهم مجموعة من الذئاب الضارية تريد الفتك بإسرائيل وإلقاء شعبها في البحر، دون أن يزع هؤلاء الجيران وازع أخلاقي، أو يحكم تصرفاتهم مبدأ إنساني، وتعاقدت على تأكيد ذلك آراء الساسة والاجتماعيين والأدباء الصهاينة.

وقد صار في إمكان هؤلاء الجيران –كما أثبتت الحرب الأخيرة- بصورتهم تلك المخيفة أن يضربوا إسرائيل في العمق.

ولم يغير من هذا الشعور لدى المواطن الإسرائيلي تلك الصور الأخلاقية المتناقضة التي قدمتها الحرب لكل من حزب الله وجيش الدفاع، فقد بدا حزب الله أكثر أخلاقية ومحافظة على المبادئ الإنسانية من الجيش الذي زوَّر الحقائق زمنًا طويلا زاعمًا أن خصومه همج ولا أخلاقيون، وأما هو فعلى النقيض من ذلك. ويكفي لتأكيد هذا التفاوت الكبير المقارنة بين ضحايا الطرفين اللبناني والإسرائيلي مدنيين ومقاتلين في حرب عام 2006م.

البحث عن النصر بأي ثمن
مهما يكن، فقد كان من الطبيعي أن تتكيف إسرائيل مع واقع جديد لم تعد تملك فيه كل أوراق اللعبة، أو تبحثَ عن حل لأزمتها تلك يتجاوز مفردات الواقع ولا يتصالح معها، وذلك بالبحث بأي ثمن عن نصر يعيد إليها الثقة في نفسها، وتمثلت محاولاتها في هذا الاتجاه في أمرين:

الأول: الاستقواء بالمجتمع الدولي في حماية الجبهة الشمالية للدولة العبرية مؤقتا، على أمل أن تأتي فرصة ما يمهد لها الداخل اللبناني في صورة واقع سياسي ملائم، أو حالة إقليمية ودولية مواتية؛ لنزع صواريخ حزب الله ذات الخطر الهائل على إسرائيل.

وقد يأتي هذا فيما بعد –وفقا لحسابات معينة تصدق أو تكذب- ضمن برنامج عام لتأديب إيران وسوريا، وهو ما تعوقه الآن أزمة الأميركيين العميقة في كل من العراق وأفغانستان، حيث لا يستطيعون البقاء ولا الرحيل، كما تعوقه التعقيدات والتقاطعات الكثيرة في خطوط السياسة اللبنانية الداخلية.

الأمر الثاني: -وهو الأهم في هذا المقال- تكثيف الهجوم –غير المنقطع أصلا- ومتابعته على غزة دون مبالاة بالضحايا وأعدادهم، ولا الدمار وحجمه، والحجة هي منع الفلسطينيين من إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ولعل القوة الصهيونية تفلح أيضًا في تخليص جنديها الأسير دون خضوع لمطالب الفلسطينيين أو شروطهم.

والذي يؤكد أن إسرائيل تسعى بهذا إلى تغطية سوأتها التي انكشفت بعد حرب لبنان الأخيرة، هو أن الوقت غير ملائم بالمرة لهذه الحملة، حيث إن المفاوضات مع الفلسطينيين لتحرير الجندي الأسير كانت قد وصلت تحت رعاية مصرية إلى مستوى معقول من التقدم، كما أن الجبهة الداخلية الفلسطينية كانت في أزمة حقيقية وصراع ضيَّق الاعتداءُ هوَّته، وفي الوقت نفسه وصل إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المناطق اليهودية تحت وطأة الأزمة بين حماس وفتح إلى مستويات ليست هي الأعلى على كل حال.

ويبدو أن حسابات حكومة أولمرت في هذه الحملة الشرسة على الفلسطينيين، تقوم على أنها لو حققت الأمن لمواطنيها في المستوطنات المتاخمة لقطاع غزة، خاصة من جهة الجنوب، فإن هذا قد يُنسي الناخب الإسرائيلي شيئا من مراراته في لبنان.

كما أن هدير المدرعات الإسرائيلية في زحفها المظفر على غزة وأصوات المدافع المدوية تلهي المواطن الإسرائيلي عن الماضي القريب بآلامه وأوجاعه، وتجعله يغض طرفه -ولو مؤقتا- عن أخطاء قادته السياسيين والعسكريين في الحرب الأخيرة، ويحيط نفسه من جديد بهالة من الأمن الخادع.

وهنا قد يبدو تحالف أولمرت مع ليبرمان -رئيس حزب "إسرائيل بيتنا القومي"– مساندة للحكومة المأزومة في موقفها بعد الحرب، واستغلالا من ليبرمان لأزمة أولمرت وحكومته، أكثر منه دافعا إلى الحملة الشرسة على غزة.

هل تنجح إسرائيل في غزة؟
ولكن، هل يمكن أن تفلح إسرائيل مع الفلسطينيين فيما لم تفلح فيه في لبنان؟

أما أن يدمِّر "جيش الدفاع" ويقتل، ويصمت العالم عربه وعجمه، ويغطي الأميركيون جرائمه، فهذا معتاد وحدث من قبل كثيرا، وقابل للحدوث الآن وفيما بعد –للأسف الشديد- ما دامت المعادلة الإقليمية والموقف الدولي على صورتهما الحالية.

إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه إسرائيل الآن، وستتجلى أكثر في المستقبل هي أن خصمها منذ أكثر من عقدين قد تغير، فتأقلم مع واقع الأزمة واعتاده، ولم يعد هذا الخصم وجوها محددة تتولى المقاومة وتموت القضية بموتها، أو يسقط ركن كبير بسقوطها، ولكنها أجيال نشأت في ظلال المعاناة، وتعلمت أن الحل الوحيد لقضاياها يكمن في أن تنزل إلى ساحة الحل بنفسها، أو على الأقل تقوم بالمهمة الأساسية في هذا الجانب.

وقد كانت الناصرية في مصر تشير إلى كثير من هذه المعاني في صحافتها وخطبها السياسية، وأنه إن فني جيل عربي دون أن ترجع الحقوق العربية فستعود الحقوق على يد جيل آخر.

ولكن غاب عنها في ذلك الحين أن هذا مرهون بتغيرات بِنيَوية وسياسية وفكرية في تركيبة الجبهة المقاوِمة للمشروع الصهيوني، ومرهون أيضًا بإصلاحات داخلية فيما تحت أيدينا من حقوقنا.

وقد تحقق شيئ من هذا التغيير بعد عقود من قيام المشروع الصهيوني في فلسطين، مما يضع الموقف العربي فوق سلم تصاعدي ولو ببطء شديد، وعلى الرغم من الانهيارات والتصدعات الخطيرة في الحالة العربية الرسمية.

لقد تحولت صورة الخصم المادي المحدد الذي يمكن أن تصل إليه الذراع الإسرائيلية أينما كان، إلى خصم فكري وعقائدي لا يحمل ترهلات الماضي، ولا تفرض عليه أخطاء الداخل أو الخارج الانكماش في مواقع أساسية معينة، كما أن انتهاء فترة الحرب الباردة علمت الشعوب المستضعفة أن تعتمد على ذاتها، بدلا من أن تعزف على تناقضات القوتين العظميين.

ولابد من الإشارة هنا إلى موقف الأميركيين من الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، حيث يبدون كمن لا يريد أن يفهم حين يفسرونها على أنها "دفاع عن النفس".

فهل يدرك التيار الإنجيلي -الذي يؤثر في اتجاهات الإدارة الأميركية- أن سياساتها تباعد أحلامه باجتماع اليهود في أرض فلسطين، وما يلي ذلك من عودة المسيح، إلا إذا كانوا يحلمون بإبادة جميع العرب والمسلمين؟

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة