الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أولئك الأكياس.. أولئك الأكياس

أولئك الأكياس.. أولئك الأكياس

أولئك الأكياس.. أولئك الأكياس

روى ابن ماجه والمنذري في الترغيب والترهيب بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن رجلا من الأنصار سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الناس أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا..أولئك الأكياس".

والكَيْسُ: هو العقل. و"أي المؤمنين أكيس": أي أيهم أكثر عقلا وأسد رأيا.
فأعقل الناس هو ذاك الذي يرى الأمور على حقيقتها، فلا تخدعه المظاهر ولا تشغله الظواهر، ولا تلهيه السفاسف عن إدارك الحقائق. فهو يرى الدنيا على حقيقتها، دار ابتلاء وامتحان (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )(الملك:2).. وغايتها أن تكون قنطرةً يُعبَر عليها إلى الدار الآخرة، ومرحلةً يتزود الإنسان منها إلى السفر الطويل "مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها".. فهو يرى نفسه في الدنيا كغريب أو عابر سبيل، إن افتقر فيها علم أنه ابتلاء فصبر عليه، وقال كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "ما قل من الدنيا كان أقل للحساب، وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.
فيكفي من الطعام ما سد الجوعة، ومن الثياب ما ستر العورة
وما هي إلا جَوعَةٌ قد سددتها .. ... .. وكل طعام بين جنبيَّ واحدُ
وإن اغتنى علم أيضا أنه مبتلى؛ فيشكر الله على نعمته، ثم لا يأخذ المال إلا من حِلِّه ولا يضعه إلا في حقه، ويعلم أنه لو حيزت له الدنيا فإن ذلك لا يساوي شيئا في الآخرة إلا بالتقوى "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه" "رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وهو صحيح"
والله لو عاش الفتى في عمره.. ... .. ألفا من الأعوام مالك أ مره
متلذذا فيها بكل لذيــذة .. ... .. متنعما فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي .. ... .. منها بأول ليلة في قبره
وقد مر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في السوق بجدي أسك ميت. فتناوله فأخذ بأذنه. ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشئ. وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيا، كان عيبا فيه، لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله ! للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم "(رواه مسلم)

ولكن لا يبلغ الإنسان هذا الفهم، ولا تستقر في نفسه هذه الحقائق إلا إذا كان الموت على بال، كما هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" (رواه المنذري بسند حسن).
وقال لابن عمر: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

وإنما كان الأكياس "العقلاء" هم أكثر الناس ذكرا للموت لأن الموت هو آية الله العظمى، وسره الخافي وراء الستر المسبل، قهر به جميع المخلوقات، فـ (كل من عليها فان)، وجعله حتما لازما وحكما نافذا (فكل نفس ذائقة الموت)، وجعل له أجلا محدودا (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، وهذا الأجل غيب مجهول لا يعلمه إلا الله، فلا يدري أحد متى ولا أين ينزل به (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وقد أجمع أهل العلم كما يقول القرطبي على أن الموت ليس له وقت معلوم، ولا سبب معلوم، ولا مكان معلوم، بل يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم)
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب .. ... .. متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالا ونرجو نتاجها .. ... .. وعل الردى مما نرجيه أقرب

فإذا كان الأمر كذلك كان من علامة كمال العقل أن يكون الإنسان كثير الذكر لذلك، عظيم الاستعداد له، فكرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك يلزمك أن تستعد له "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموتوالعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"(رواه الترمذي وحسنه)

وإنما كان أكيس الناس أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا لأن ما بعد الموت كله شدائد متتالية، وفتن متوالية، وفظائع ومصائب متداخلة يتبع بعضها بعضا، ولكنها في النهاية خلاصة صادقة، ونتيجة عادلة لما كان العبد يعلمه في هذه الحياة. "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".

وإنما نسي الناس ذلك لما زادت الغفلة، وطالت الآمال، فقست القلوب، وذهلوا عن الموت فأعمالهم أعمال من لا يموت، وأحوالهم أحوال من ضمن الخلود، حتى صرنا كأننا من الموت في شك كما قال الحسن: " ما رأيت يقينا أشبه بشك من الموت".

فقلوبنا موقنة بالموت، وأعمالنا أعمال من لا يموت أبدا، وهو أمر عجب تعجّب منه سيدنا سليمان الفارسي فقال: "ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: "عجبت من مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط ربه عليه أم راض".

منافع ذكر الموت
إن لذكر الموت منافع كثيرة، وفوائد غزيرة .. منها:
(1) قطع أسباب الغفلة بتقصير الأمل:
فإن طول الأمل أكبر أسباب الغفلة فالموت لا يترك فقيرا لفقره ولا غنيا لغناه " وقد ذكروا عن ابن السماك أنه قال: ( بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول: عزيز فلم تترك لعزك!! غني فلم تترك لغناك!! فقير فلم تترك لفقرك!! جواد فلم تترك لجودك!! شديد لم تترك لشدتك!! عالم فلم تترك لعلمك!!. يردد هذا الكلام ويبكي.

(2) يحث على الاستعداد وحسن العمل:
قال أبو علي الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي ذكر الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، ترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.

(3) الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها :
قال التميمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى.
وقال الحسن: إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عيشا لا موت فيه.

(4) يردع عن المعاصي :
فمن اعتقد أن الموت يخطفه في أي لحظة هل يجرؤ على المعصية. خصوصا إذا علم أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.. فهل يرضى أن يبعث يوم القيامة وهو مقيم على معصية الله تعالى فيفضح بين الخلائق؟!

(5) الرضا على كل حال:
فمن كان في ضيق فذكر الموت وسعه عليه، ومن كان في سعة تدعوه للبطر والكبر فذكر الموت ضيقها عليه، ومن أصابته مصيبة فتعزى بالموت هانت عليه مصيبته، ولذلك قالوا:
اصبر لكل مصيبة وتجلد .. ... .. واعلم بأن المرء ليس مخلد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة .. ... .. هذا سبيل لست فيه بأوحد

وقال الشافعي يعزي رجلا في ميت له:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة.. ... .. أنا نعيش ولكن سنة الدين
فلا مالمعزى سيبقى بعد ميته.. ... .. ولا المعزي وإن عاشا إلى حين

(6) الاستعداد الدائم:
فمن كان منه الموت على بال كان دائم الاستعداد لنزوله، متهيأ لقدومه عليه في أي لحظة.. قالت زوجة حبيب أبي محمد: كان حبيب يقول: إذا أنا مت يغسلني فلان ويحضر فلان، وتفعلوا كذا وكذا ويوصي. قالوا هل كان رأى رؤيا، قالت: لا هو يفعل ذلك كل يوم.

وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : ويحك يا يزيد من ذا يصلى عنك بعد الموت ؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: من كان الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟.

وكان رجل يمشي بالليل ينادي في الناس: الرحيل الرحيل، ففقد أمير المدينة صوته فسأل عنه، قالوا: مات. قال :
ما زال يلهج بالرحيل وذكره .. ... .. حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظا ومشمرا .. ... .. ذا أهبة لم تلهه الآمال

وللموت منافع آخر ليس آخرها التواضع وترك الكبر، والانتهاء عن أكل الحرام والبعد عن الظلم... ولكنها سلسلة من المنافع طويلة يجدها ذاكر الموت في حياته وبعد وفاته .. نسأل الله أن يجعل ذكر الموت منا على بال، وأن يرزقنا والمسلمين حسن الخاتمة.. آمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد