فرادة الحدث تجعله يستعصي على التفسير
- اسم الكاتب:
صالح بشير - تاريخ النشر:16/04/2002
- التصنيف:تفجيرات أمريكا .. اللغز المحير
أحد الفلاسفة المعاصرين ، قد يكون البريطاني جون سيرل ، أشار إلى أن مجال الفلسفة هو كل ما لم يبارح سوية البحث الذهني أو التأمل الصرف ولم يبلغ بعد درجة من التحديد واليقين دنيا ، بمعنى التجريب ووسائل التحقق من الفرضيات والمراقبة المعرفية لها ، تجعله يتحول إلى موضوع علمي . وهو " تعريف " إذا ما أخذنا به ، فأغلب الظن أن فعل الإرهاب ، خصوصًا ما بلغ منه شأو حادث 11 أيلول (سبتمبر) ، لن يستنفده في يوم من الأيام سبر علمي .
ذلك ما قد يكون من مصاف البداهات ، لكنها بداهات يتعين التذكير بها وإعادة تأكيدها ، وقد توالت التفسيرات حول ما حدث يومذاك ، وامتلأت بها أعمدة الصحف وشاشات التلفزيون ، تأخذ من عوامل التاريخ بطرف ، ومن سمات حضارية ودينية ، أو من قضايا ومظالم سابقة أو عالقة ، أو من تأزم اقتصادي واجتماعي ، ساعية إلى تعليل يُقدم على وجه السرعة إلى مستهلكي الأحداث ، هذا قبل أن يطلع علينا ، في أجل قد يكون وشيكًا ، من يقول : إن في هذا الأمر جينات ، وإرثًا بيولوجيًا ، وأن هناك جينة لدى مدمن الكحول أو المخدرات أو المثلي أو من كان لا يغالب الرغبة في الخيانة الزوجية .
بصرف النظر إذن عن كل ذلك الضجيج التفسيري الذي لا يفسر شيئًا ، هناك يقين وحيد ، أن الموضوع ذاك يكتنفه " يأس " معرفي مقيم . لكنه ، من وجه آخر ، يأس خصب خلاق ، بالمعنى الفكري ، على ما هو شأن كل موضوع مستعص ، وكما يشهد بذلك تاريخ الفلسفة . ولعل ذلك ما يجعل بعض أفضل وألمع ما كتب حول 11 أيلول هو ما استنكف عن التفسير أو لم يستسهله أو لم يحاوله ، أي هو ما أقر بذلك " اليأس " الآنف الذكر .
يقول : بودريار : " نحن ، مع الاعتداءات على نيويورك ، ومركز التجارة العالمية ، أمام الحدث المطلق ، أمام " أم الأحداث " ، أمام الحدث الخالص الذي يكثّف في ذاته كل الأحداث التي لم توجد أبدًا ، لكن تلك الإطلاقية وذلك التكثيف لا يبوّآن الحدث المذكور منزلة النموذج ، وبالتالي منزلة وحدة القياس ومعياره قياسًا إلى ما كان من طينته وعلى منواله من ضروب العنف ، بل هما ينزويان به ( حتى لا نقول " يسموان به " وهو ما لا يحتمله المقام أخلاقيًا ) عما عداه ، وينتحيان به ناحية الفرادة ".
والحال أن الفرادة لا تُفَسر ، يعوزها في ذلك الانتظام والتواتر والتكرار ، وتلك وحدها القمينة باستخلاص القوانين واستجلاء الآليات ، من خلال الرد إلى سابقة وتوقع المحتمل ، كل المتاح في شأن الفرادة هو وصفها ، فلا سبيل إلى الإحاطة بها قدر المستطاع ، وعلى نحو لا يستنفدها أبدًا ، غير ذلك . ولنراجع كل أحداث التاريخ الكبرى والفريدة ، تلك التي توالت أجيال الباحثين في تفسيرها ، فلم تفلح إلا في وصفها ، إلى ما لا نهاية ، من دون أن تنفذ يومًا إلى محركاتها الدفينة والفاعلة في عمقها ، أو إلى عللها الأولى ، إن وجدت مثل تلك العلل .. على أن تؤخذ عبارة الوصف تلك بمعناها النبيل بطبيعة الحال ، ذلك الذي قوامه جهد فكر متقدم .