الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حماس والخيارات الصعبة

حماس والخيارات الصعبة

حماس والخيارات الصعبة

حققت حماس قفزات هائلة في مطلع سنة 2006 بفوزها الكبير بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، وبتشكيلها الحكومة الفلسطينية. والقفزات الكبيرة قد تحمل في طياتها بشائر التقدم السريع واختصار المسافات نحو تحقيق الأهداف، لكنها قد تحمل أيضاً مخاطر "الارتطام" بحقائق الواقع، وربما تكسير "الأطراف والأضلاع" بما يعطّل المسيرة ويعوق الحركة.

وجدت حماس نفسها أمام استحقاقات ضخمة، ومعادلات تكاد تكون مستحيلة، وأدركت أن بقاءها في السلطة سيحمل أثماناً واستحقاقات باهظة، كما أن تركها السلطة قد يحمل أثماناً أكبر واستحقاقات أشد.

ووجدت حماس نفسها أمام مرحلة "جراحات حتمية" حيث ستصاب أيا كان الاتجاه الذي ستختاره. وكان عليها أن تقرر خياراتها ليس استجابة للحاجات المرحلية المستعجلة فقط، وإنما بناءً على رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، وإلا فإنها ستجد نفسها محكومة بمسارات يصنعها خصومها وأعداؤها، وستجد نفسها مضطرة للتكيف مع متطلبات وشروط اللعبة التي يضعها الآخرون، وهو ما قد يؤدي بها إلى تقديم التنازل تلو الآخر.

كان خيار المشاركة السياسية والانتخابية أحد الخيارات الصعبة التي تعاملت معها حماس. وكان لهذا الخيار مزاياه المغرية.

فقد تمكنت حماس من الانتقال من الهامش إلى المركز، ومن المعارضة إلى السلطة، وكسرت لأول مرة منذ أربعين عاماً احتكار فتح قيادة الشعب الفلسطيني، ولأول مرة تتولى الحكومة حركة مقاومة إسلامية فرضت نفسها فرضاً من خلال انتخابات حرة نزيهة، وحصلت حماس إلى جانب شرعيتها الثورية على شرعية شعبية ودستورية، سعت من خلالهما لحماية ظهرها وإسناد برنامجها في المقاومة والإصلاح والتغيير.

وقد أوقف فوز حماس في الانتخابات حالة الانزلاق الحاد في مسار التسوية، وقطع الطريق على "فريق أوسلو" الذي كان ينتظر أخذ شرعية شعبية في انتخابات يناير/كانون الثاني 2006 للمضيّ قدُماً في نزع أسلحة المقاومة وعزل تياراتها والدخول في مفاوضات التسوية النهائية.

وقد أوضحت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في 19/1/2006 كيف أن القادة الغربيين أخبروا "إسرائيل" بأن عباس تمكن من إقناعهم بضرورة الانتخابات حتى يتمكن من محاربة "الإرهاب والفوضى" وأنه تعهد لهم بمباشرة هذه العملية فور انتهاء الانتخابات، وأن القادة الغربيين تعهدوا لإسرائيل بالتخلي عن دعم السلطة وقطع العلاقات معها إذا لم يفِ عباس بوعده، وتعهدوا بدعم "إسرائيل" في الخطوات التي ستتخذها لمواجهة الوضع الجديد.

لذلك فقد كان على حماس أن تتوقع الأسوأ بعد الانتخابات؛ غير أن فوزها جعل "اللعبة" تجري في ملعب خصومها، ونزع من أيديهم "شرعية" ضربها وضرب تيارات المقاومة.

وقدمت حماس نخبة من الكفاءات الفلسطينية الجديدة، وأعطت حكومتُها غطاء للمقاومة وعملياتها، وكشفت مشاركة حماس في السلطة بشكل صارخ العديد من علل النظام السياسي الفلسطيني، ومدى الخلل في اتفاقات أوسلو، وحجم الهيمنة والتسلط الإسرائيلي الأميركي على السلطة، والذي يسعى بكل قوة لمنع أي وحدة وطنية فلسطينية حقيقية، ومنع أي رفع لسقف المطالب الفلسطينية.

لكن هذا الفوز وتشكيل الحكومة، كان من وجهة نظر أخرى استحقاقاً في غاية الصعوبة ويحمل مخاطر كبيرة، إذ فوجئت حماس بفوزها، ولم تكن تملك رؤية سياسية واضحة، ولا تخطيطاً جاهزاً لاحتمالات الانتقال من المعارضة إلى السلطة، وتشكيل الحكومة الفلسطينية.

ولم تكن هناك أية حالة تهيؤ حقيقية لاستيعاب وتحمّل هكذا نتائج. وبقدر ما كان قرار المشاركة في الانتخابات متأنياً، بقدر ما كان قرار استلام الحكومة مستعجلاً.

وكانت عملية الانتقال من العمل المقاوم والتزاماته إلى مسار الحكم ومقتضياته نقلة ضخمة وسريعة، لم يتسنّ لها المرور بمرحلة انتقالية وسيطة.

ولكن شفع له وجود حالة من شبه الإجماع لدى قيادة الحركة وقواعدها بضرورة تحمّل المسؤولية، وعدم خذلان الجماهير التي أعطت ثقتها للحركة، والسعي لتنفيذ برنامج التغيير والإصلاح الذي قدمت حماس نفسها على أساسه.

لم تنجح الحركة في تقدير حجم التكاليف المحتملة وحجم الخصومة والعداء الذي ستواجهه من التيار المتنفذ في فتح، ولا من الإسرائيليين والأميركان، في حالة تشكيلها الحكومة، كما لم تنجح في تقدير حجم المعاناة التي سيتعرض لها الشعب الفلسطيني بسبب ذلك.

ولم تكن لدى حماس إجابات واضحة عن كيفية تنفيذ برنامجها الإصلاحي وإدارة العملية التشريعية في أجواء الاحتلال، خصوصاً أنه إذا كانت عمليات الاعتقال والاغتيال والتدمير جزءاً معتاداً من طريقة العدو في إدارته الصراع، فإن ذلك يشير على الأقل إلى مدى هشاشة تطبيق مشروع الإصلاح والتغيير عندما يكون تحت الاحتلال.

وقد زاد من تعقيد الأمور أن حركة فتح صُدمت بفوز حماس بالانتخابات، وتعاملت مع المجلس التشريعي والحكومة باعتبارها فقدت شيئاً خاصاً بها. وقرر التيار المتنفذ فيها استخدام كافة الوسائل لإفشال تجربة حماس وإسقاط حكومتها.

ولم يعطِ حماس فرصة للحكم، وتعامل مع فوزها وكأنه "خطأ تاريخي" يجب تصحيحه. ولذلك استلمت حماس حكومةً قام أبو مازن بنزع الكثير من صلاحياتها، سواء في الجوانب الأمنية أم الإعلامية أم العلاقات الخارجية، بل وغير قادرة في الكثير من الأحيان على تنفيذ برامجها.

وقد حكم القرار السياسي لحماس خمسة جوانب رئيسية:

1- الإصرار على عدم التنازل عن مكتسبات الحركة التي تحققت بفوزها في الانتخابات التشريعية، وممارسة حقها الديمقراطي في الحكم.

2- الشعور القوي بأن ما يحاك لها في حال إفشالها وإسقاط حكومتها أكبر بكثير مما ستواجهه في أثناء حكمها، وأن هناك برنامجاً جاهزاً لضربها وتهميشها بل واستئصالها؛ وبالتالي فإن شرعيتها التشريعية والحكومية تمثل مصدر حماية وخط دفاع متقدماً لها.

3- السعي بكل الطرق لتجنب المواجهة مع فتح أو الدخول في حرب أهلية.

4- محاولة الاستفادة من موقع الحكومة في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وخصوصاً منظمة التحرير الفلسطيني، وفي السعي لتطوير علاقات الحركة العربية والدولية.

5- السعي لفك الحصار، وتوفير المال، والتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني.

وقد تسببت هذه العوامل في إصرار حماس على البقاء في الحكومة، مع السعي الدؤوب لعلاج المشاكل مع فتح، والدخول في مفاوضات طويلة للوصول إلى برنامج سياسي موحد وحكومة وحدة وطنية، وتجنب إراقة الدم الفلسطيني.

غير أن محصلة هذا الحراك السياسي صبّت في الاقتراب أكثر من المربع السياسي لحركة فتح، في الوقت الذي استمر فيه التيار المتنفذ في فتح في برنامجه الحثيث لتشويه حماس وإسقاط حكومتها.

قدمت حماس أقصى ما تستطيع من تنازلات سياسية في مدة وجيزة تقلّ عن عامٍ واحد. ففي الرحلة إلى اتفاق مكة وافقت الحركة على "احترام" الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الكيان الإسرائيلي.

ولم يعد في المدى المنظور ما يمكن أن تقدمه للأطراف الأخرى التي انفتحت شهيتها بشكل أكبر لمزيد من الضغط على حماس لتحقيق المزيد من التنازلات. وقد قلّل ذلك من هامش المناورة السياسية المستقبلية للحركة، وأضعف من قدرتها على التحرك.

وجدت حماس نفسها في بيئة عمل وأطر تفرضها اتفاقيات تنظم وجود السلطة وتحدد أفقها وصلاحياتها، وبشكل متعارض تماماً مع "مقاسات" حماس السياسية وأهدافها الإستراتيجية.

وتعرضت حماس للضغط المتواصل من خصومها وأعدائها لإفشال فكرة إمكانية المزاوجة بين السلطة والمقاومة، وتحويل الأمر إلى مأزق وتناقض لا يمكن حله إلا بالتخلي عن المقاومة لصالح السلطة.

وكانت عملية البقاء في السلطة تعني دفع أثمان باهظة مرتبطة بالتهدئة، وتجميد برنامج المقاومة وتقديم تنازلات سياسية، والدخول في شراكة سياسية مع جهات متهمة بالفساد، فضلاً عن التعطل العملي عن تنفيذ برنامج الإصلاح والتغيير.

كما أدى انشغال حماس وحكومتها بفك الحصار، وتوفير المال، ونزع فتائل التفجير الداخلي، إلى وضع ملفات الإصلاح والتغيير والمقاومة ومكافحة الفساد على الرف، أي أن حماس انشغلت عملياً "بإزالة الآثار السلبية الناتجة عن فوزها"، وليس بتطبيق برنامجها.

شلّت الإجراءات الإسرائيلية (خصوصاً في الضفة) عمل حماس وحكومتها ونوابها في المجلس التشريعي، وظهر إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الإجراءات في الوضع الفلسطيني، كما ظهر مدى النفوذ الإسرائيلي الدولي، بحيث تُرك الفلسطينيون لمصيرهم ولم تنفعهم انتخاباتهم الديمقراطية ولا "تهدئتهم"، ولا الكفاءات المتميزة التي قدموها.

ولم تُحسّن "التهدئة"، ولا موقف حماس من مشروع الدولتين، ولا موقفها من "الهدنة"، ولا لغتها الدبلوماسية المرنة، من صورتها لدى الأميركان فضلاً عن الإسرائيليين، واعتبر ذلك مؤشراً على قابلية حماس للانضغاط وتقديم المزيد من التنازلات.

جعلت كل التحديات والاستحقاقات السابقة بقاء حماس في السلطة أمراً بالغ الصعوبة، غير أن أسوأ الأمور كانت في استخدام أطراف فلسطينية متنفذة الانفلات الأمني أداة لإسقاط حماس وتشويه صورتها؛ فكانت الاشتباكات الدامية المؤسفة بين عناصر من فتح وحماس.

وفي الوقت نفسه لم يكن لدى حماس الوسائل والأدوات الإعلامية المكافئة، لمقابلة حملات التشويه التي تتعرض لها من خصومها ومن الإسرائيليين والأميركان.

كان لجوء حماس في القطاع إلى ما يعرف بـ"الحسم الأمني" أحد الخيارات الصعبة التي رأت نفسها مضطرة إليه، بعد أن أخذت أطراف فلسطينية بتنفيذ خطة دايتون الأميركية على الأرض.

ولم تكن حماس تخطط للسيطرة على القطاع؛ إذ أن إدارته في مثل هذه الظروف من الاحتلال والحصار هو "كرة لهب" تضع أي جهة مهما كانت كفاءتها تحت أعباء لا تطاق.

لكن حماس في الوقت نفسه لم تكن لتقبل أن تكون شاهداً صامتاً على انفلات أمني منظم تديره أجهزة أمنية تتبع السلطة، وتستهدف إسقاط حكومة حماس، وضرب بنيتها التحتية واغتيال كوادرها.

غير أن عملية "الحسم" رافقتها إراقة دماء، وحملات تشويه إعلامي، وأخطاء في الممارسة الميدانية؛ فكان ذلك مما أساء إلى صورة حماس.

وبدا الأمر أمام الناس وكأنه صراع على السلطة، وهو ما أدى إلى حالة من الضيق والإحباط، شملت الكثير من المؤيدين والمتعاطفين في العالم العربي والإسلامي.

قد يظهر أن من مصلحة حماس ترك الحكومة والتخلي عن السيطرة على قطاع غزة والتركيز على المقاومة، وأن تضع نصب أعينها أن استثمارها الحقيقي هو في الإعداد الحثيث الجاد للانتفاضة القادمة بوسائل جديدة ومبدعة.

غير أن مثل هذا الخيار، الذي قد يبدو أفضل من "المستنقع" الذي وجدت حماس نفسها فيه، هو خيار قد يحمل أثماناً باهظة أيضاً. فما هي الضمانات التي يمكن أن توفرها السلطة بأنها لن تواصل استهداف حماس ومحاولة سحقها؟ خصوصاً أن الكل يعلم مضامين خريطة الطريق ومشروع التسوية الذي التزمت به السلطة، فضلاً عن خطة دايتون وغيرها.

ثم ما هي آفاق إحداث أي تغيير إيجابي في بنية النظام السياسي الفلسطيني، وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، والقيام بإصلاح السلطة ومؤسساتها؟ إذا كان المراد أن يدار المشروع الوطني من أطراف تحظى بقبول إسرائيلي وأميركي، ومتهمة بالترهل والفساد.

وكيف يمكن السير بالمشروع الوطني إذا لم يتم احترام الشراكة السياسية ونتائج صناديق الاقتراع؟ وهل من الصحيح الاستسلام إلى حالة الإحباط، الناتجة عن إصرار طرف ما على احتكار القيادة و القرار السياسي؟

من الواضح أن حركة ذات تمثيل شعبي واسع مثل حماس لن ترضى بتهميش نفسها، وستصِّر على حقها في المقاومة، وفي الإسهام في إصلاح الوضع الفلسطيني، بل والوقوف في وجه أي مشروع تسوية ينتقص من الحقوق الفلسطينية.

وهو ما يعني أن ترك حماس الحكومة وتسليم غزة لن يتم إلا وفق ترتيبات وضمانات مسبقة. وعلى ذلك، فإن المخرج الحقيقي سيكون في عودة الأطراف الفلسطينية إلى الحوار، وتقديم المصالح الوطنية العليا، وتوجيه السلاح نحو العدو فقط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزيرة نت

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة