الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

جرأة في الحق وثبات على الشدائد

جرأة في الحق وثبات على الشدائد

جرأة في الحق وثبات على الشدائد

حينما يكون الإيمان بالله تعالى قويـًا يقدم صاحبه على تجشم الصعاب واقتحام المخاطر من أجل نصرة هذا الدين ، الذين آمن به وخالطت محبته شغاف قلبه ، فتبرز قوة الإيمان ، وتتفوق - رغم قلة العدد وضعف الإمكانات المادية - على كثرة العدد ووفرة القوة المادية .

فهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أحد علماء الصحابة ، الذي انتشر الإسلام على أيديهم وخرَّجوا أجيالاً من العلماء الربانيين ، نجده يتحدى زعماء قريش وهم في عزهم ودولتهم ، وهو الضعيف من ناحية العشيرة ، فيجهر بالقرآن أمامهم في المسجد الحرام ، ولم يكن يستطيع الجهر به آنذاك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلة عدد المسلمين وشدة الضغط عليهم من الكفار .

قال الزبير - رضي الله عنه - : " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - " .
قال : اجتمع يومـًا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ، قال : دعوني فإن الله سيمنعني".
قال : فغدا ابن مسعود - رضي الله عنه - حتى أتى المقام ـ أي مقام إبراهيم ـ في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) رافعـًا بها صوته ، ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ )( الرحمن: 1 ، 2 ) ، قال : ثم استقبلها يقرؤها. قال : فتأملوا فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ - وكانت هذه كُنيته - قال : ثم قالوا : إنه يتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : " ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا ، قالوا : لا ، حسبك أن قد أسمعتهم ما يكرهون " .

وهكذا نجد أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في أول الإسلام هو أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة المكرمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرغم من كونه لا عشيرة له تحميه من أذى المشركين ، ونجد في هذه القصة أن إخوانه المؤمنين يذكِّرونه بذلك ، ويبينون له خطورة الأمر بالنسبة له ، ولكنه يصر على أن يجهر بالقرآن أمام زعماء قريش ، ويقول لإخوانه : دعوني فإن الله سيمنعني ، ونجد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بهذا الموقف يضرب مثلاً عاليـًا في التوكل على الله تعالى .

وإذا عظم ذكر الله سبحانه في قلب المؤمن هان عنده كل شيء ، فقد هان هؤلاء الكفار على ابن مسعود - رضي الله عنه - بالرغم من شراستهم وتحزبهم ضد دعوة الحق ، فتحداهم بما يكرهون ، وذلك لأن وجود الإيمان بالله عز وجل في قلبه كانت نسبته عالية جدًا ، بينما كان وجود هيبة الكفار في قلبه ضئيلاً جدًا ، فأقدم على مواجهتهم بذلك .

وبهذا نعلم أن الرهبة من أعداء الإسلام تتضخم في قلب المسلم بقدر تضاؤل وجود الإيمان بالله تعالى في قلبه ، بينما تتضاءل رهبته منهم بقدر قوة إيمانه بالله تعالى وهيمنة هذا الإيمان على مشاعره وسلوكه .

وقد تكّوَّن لديه - رضي الله عنه - من هذا الموقف الشجاع قدر عالٍ من الإيمان بالله تعالى ، إلى جانب ما تضاءل في نفسه من هيبتهم ، فأصبح مستعدًا لتحديهم مرة أخرى ، حيث قال لأصحابه : " ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا " .
وهكذا نجد أن الشجاعة في قول الحق تقوي الإيمان بالله تعالى وتضعف من هيبة الأعداء ومكانتهم .

فالحق لابد أن يظهر مهما حاول الطغاة تطويقه بما لديهم من قوة وجبروت ، قال تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )( التوبة:32 )

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة