الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خطابات القرآن

خطابات القرآن

خطابات القرآن

(الخطاب) هو الكلام الموجه للآخر على وجه الإنشاء أو الإخبار. و(الخطاب) في القرآن هو خطاب الله للمكلفين طلباً ونهياً، وترغيباً وترهيباً، ووعداً ووعيداً، وإخباراً وتذكيراً، واعتباراً وإنذاراً، ونحو ذلك من أنواع الخطاب.

والقارئ في كتب التفسير يقف كثيراً على عبارات للمفسرين تتعلق بمصطلح (الخطاب)، كقولهم: "والخطاب موجه إلى..."، وقولهم: "والخطاب بـ {يأيها الذين آمنوا} خطاب..."، وقولهم: "والخطاب في الآية..."، وغير ذلك من العبارات التي تدل على تعدد وتنوع الخطابات القرآنية، ما يدفعنا للوقوف عليها وبيان أنواعها.

والمتتبع لأنواع الخطابات في القرآن والراصد لها، يجد أنها تتنوع على النحو التالي:

- خطاب عامٌّ يراد به عموم الناس، كقوله تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} (فاطر:3). فالخطاب في الآية يشمل جميع الناس المؤمن والكافر، والغني والفقير، والرئيس والمرؤوس. وأكثر خطابات القرآن من هذا القبيل.

- خطاب خاصٌّ يُراد به الخصوص، من ذلك قوله سبحانه: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} (الإسراء:79)، فالخطاب في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن قيام الليل واجب في حقه صلى الله عليه وسلم دون الناس.

- خطاب خاصٌّ يراد به عموم المكلفين، كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق:1)، فالخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المراد عموم المكلفين؛ بدليل أنه لم يقل: (طلقت)، بل قال: {طلقتم}.

- خطاب عامٌّ يُراد به الخصوص، من ذلك قوله سبحانه: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (النساء:1)، فالخطاب في الآية عام، يشمل كل الناس كبيرهم وصغيرهم، وعاقلهم وغير عاقلهم، بيد أن هذه العموم غير مراد، بل المراد من كان صالحاً للتكليف من غير الصغار والمجانين.

- خطاب الجنس، نحو قوله سبحانه: {يأيها الناس}، فإن المراد جنس الناس، لا كل فرد؛ إذ من المعلوم أن غير المكلف، لا يدخل تحت هذا الخطاب.

- خطاب النوع، نحو قوله تعالى: {يا بني إسرائيل} (البقرة:40)، فالخطاب هنا موجَّه لنوع معين من الناس دون غيرهم، والمراد بنو يعقوب.

- خطاب العين، نحو قوله تعالى: {يا نوح اهبط بسلام منا} (هود:48)، وقوله سبحانه: {يا إبراهيم أعرض عن هذا} (هود:76)، وقوله تعالى: {يا موسى لا تخف} (النمل:10). ولم يقع الخطاب في القرآن بـ (يا محمد)، بل بـ {يأيها النبي}، (الأنفال:64)، و{يأيها الرسول}، (المائدة:41)؛ تعظيماً له، وتبجيلاً وتخصيصاً بذلك عن سواه.

- خطاب المدح، نحو قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا}. فهذا خطاب للمؤمنين بما هم متصفون به من الإيمان، وهو من باب المدح لهم.

- خطاب الذم، نحو قوله سبحانه: {يا أيها الذين كفروا} (التحريم:7)، وقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون} (الكافرون:1). وهذا خطاب للكافرين بما هم متصفون به من الكفر. وهو من باب الذم لهم. ولم يقع هذا الخطاب في القرآن في غير هذين الموضعين؛ وذلك لتضمنه الإهانة.

- خطاب الكرامة، كقوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين} (الحجر:46)، خطاب للمؤمنين بما وُعِدوا به من الأمن والسلم.

- خطاب الإهانة، نحو قوله سبحانه: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون:108)، خطاب للمعرضين والكافرين بما وعدوا به من الذل والمهانة.

- خطاب التهكم، كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان:49)، فالخطاب هنا على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء.

- خطاب الجمع بلفظ الواحد، كقوله سبحانه: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} (الانشقاق:6)، فالمراد بلفظ {الإنسان} هنا الجميع؛ بدليل قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا} (العصر:2-3).

- خطاب الواحد بلفظ الجمع، كقوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا} (هود:14)، فالخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله سبحانه قبلُ: {قل فأتوا} (هود:13).

- خطاب الاثنين بلفظ الواحد، كقوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} (طه:117)، فأخبر أن الشقاء حاصل لآدم، مع أن مخالفة الأمر حصل منه ومن زوجه. ومن هذا القبيل، قوله سبحانه: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} (الشعراء:116).

- خطاب الجمع بعد الواحد، من ذلك قوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا} (يونس:61)، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {وما تكون} {وما تتلو}، وإنما جاء بالفعل الثالث بصيغة الجمع: {ولا تعملون}؛ تفخيماً له وتعظيماً. ومن هذا القبيل، قوله سبحانه: {أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة} (يونس:87).

- خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، كقوله سبحانه: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب:1)، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد المؤمنون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان تقياً، وحاشاه من طاعة الكافرين والمنافقين. ومن هذا القبيل، قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} (يونس:94)، وقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر:65)، وقوله عز وجل: {ولئن اتبعت أهواءهم} (البقرة:120). فالتحقيق في كل هذا ونحوه أنه من باب خطاب عموم المؤمنين من غير قصد النبي صلى الله عليه وسلم.

- خطاب الاعتبار، كقوله تعالى حاكياً عن صالح عليه السلام لما هلك قومه: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} (الأعراف:79)، خاطبهم بعد هلاكهم؛ للاعتبار.

- خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم العدول إلى غيره، كقوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون}، فقوله سبحانه: { فإن لم يستجيبوا لكم}، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال للكفار: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله}، بدليل قوله في ختام الآية: {فهل أنتم مسلمون} (هود:14).

- خطاب التنويع، كقوله سبحانه: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} (يونس:22)، فجاء الخطاب أولاً بصيغة المخاطبين {كنتم}، ثم أتبعه بخطاب الغائبين {وجرين بهم}. ويسمى هذا النوع من الخطاب بـ (الالتفات).

- خطاب من لا يعقل خطاب من يعقل، نحو قوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} (فصلت:11)، فالخطاب في الآية للسماء والأرض، ونحوه قوله سبحانه: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} (النحل:68).

- خطاب التهييج، كقوله سبحانه: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23)، فالآية سيقت مساق الحث على التوكل على الله، وليس فيها دلالة على أن غير المتوكل على الله غير مؤمن. ونحو هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة:278)، فوَصَفَهُم سبحانه بالإيمان عند الخطاب، ثم قال: {إن كنتم مؤمنين}؛ حثاً لهم على ترك الربا، وأن المؤمنين حقهم أن يفعلوا ذلك. وهذا النوع من الخطاب غير قليل في القرآن لمن تتبعه.

- خطاب التشجيع والتحريض، وهو الحث على الاتصاف بالصفات الجميلة، كقوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، وقوله سبحانه: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء:104).

- خطاب الحزم والتأني، وهذا مقابل لما سبقه، كقوله سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60)، فالآية خطاب للمؤمنين بالاستعداد وأخذ الأُهْبَة لمواجهة الصادين عن سبيل الله.

- خطاب التنفير، من ذلك قوله سبحانه: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} (الحجرات:12)، فالآية خطاب للمؤمنين تفيد التنفير من الغيبة. ومن هذا القبيل قوله عز من قائل: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} (القصص:60)، فالآية من باب التنفير عن الدنيا: أي: ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ويذهب.

- خطاب التحنن والاستعطاف، كقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} (الزمر:53). فالآية دعوة منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

- خطاب التحبيب، نحو ما جاء في خطاب إبراهيم لأبيه: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصي} (:44)، وقول لقمان لابنه: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} (لقمان:17).

- خطاب التعجيز، نحو قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة:23)، وقوله سبحانه: {فادرؤوا عن أنفسكم الموت} (آل عمران:168).

هذه أهم أنواع الخطابات التي تتضمنها القرآن الكريم، وهي من الأهمية بمكان لفهم كلام الله والوقوف على المقصود منه، ما يعني أهمية معرفتها وبيان دلالتها.

على أن ثمة أنواعاً أُخر من الخطابات القرآنية غير ما تقدم ذكره، يمكن الوقوف عليها بالرجوع إلى كتب علوم القرآن.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة