الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستفهام في القرآن

الاستفهام في القرآن

الاستفهام في القرآن

الخطاب القرآني -وكلام العرب- إما أن يساق مساق التقرير؛ ليقرر أمراً ما، كقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد:16)؛ وإما أن يساق مساق النفي؛ لينفي أمراً ما، كقوله سبحانه: {ليس كمثله شيء} (الشورى:11)؛ وإما أن يساق مساق التعجب، تعجباً من أمر ما، كقوله عز وجل: {فما أصبرهم على النار} (البقرة:175)؛ وإما أن يساق مساق الاستفهام لمعنى ما، نحو قوله تعالى: {هل من خالق غير الله} (فاطر:3).

والذي نريد أن نتحدث عنه هنا هو الخطاب الاستفهامي، أي الجملة الاستفهامية. فما هو حقيقة الاستفهام في القرآن، وهل هو مساق على سبيل الحقيقة، أم على سبيل المجاز؟ هذا ما نسعى للوقوف عليه في هذا المقال.

ونسارع إلى القول بداية: إن الاستفهام في كلام العرب، يستعمل للاستفهام عن أمر يجهله السائل. وهو في التعريف: طلب خبر ما ليس عندك، أو هو طلب الفهم. هذا من حيث الأصل، وقد يستعمل الاستفهام على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة لمعنى يقصده السائل، كقول الوالد لولده: كم مرة قلت لك: لا تفعل هذا الفعل؟ فالسؤال هنا لا يراد منه حقيقة الاستفهام، بل المراد منه تقريع الولد وتوبيخه على معاودته الفعل المنهي عنه.

فإذا انتقلنا إلى القرآن، فإن الذي ينبغي أن يقال في هذا الصدد: إنه سبحانه لا يستفهم خلقه عن شيء، وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء. وهذا أسلوب بديع انفرد به الخطاب القرآني.

والمهم أن نعلم هنا، أن السؤال إنما يكون لطلب العلم، وهو على الله تعالى محال، وأسلوب الاستفهام الوارد في القرآن الكريم، ليس هو استفهام على سبيل الحقيقة، وإنما هو وارد لمعان أخر، نستجليها وَفْق الآتي:

استفهام يراد به (الإنكار)، ويطلب بهذا الاستفهام إنكار المخاطب لما يُستفهم عنه، كقوله تعالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس:99)، أي: لا تكره. وكقوله سبحانه: {أفأنت تنقذ من في النار} (الزمر:19)، أي: لست تنقذ من في النار. والاستفهام بهذا المعنى كثير في القرآن لمن تتبعه.

استفهام يراد به (التقرير)، ويطلب بهذا الاستفهام حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر ما، كقوله تعالى: {ألست بربكم} (الأعراف:172)، أي: أنا ربكم. ومنه قوله سبحانه: {أليس الله بكاف عبده} (الزمر:36)، أي: الله كاف جميع عباده. فليس المراد في الآيتين حقيقة السؤال، وإنما حمل العباد على الإقرار بربوبية الخالق، وكفايته لخلقه.

استفهام يراد به (التوبيخ)، وأكثر ما يقع في أمر ثابت، وُبِّخ على فعله، كقوله تعالى: {أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} (الصافات:125)، فالسؤال مراد منه التوبيخ على دعوتهم غير الله إلهاً؛ ويقع على ترك فعل كان ينبغي أن يقع، كقوله سبحانه: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} (النساء:97)، أي: هي واسعة، فهلا هاجرتم فيها، فالسؤال سيق مساق التوبيخ؛ لتركهم الهجرة في الأرض؛ لإقامة شرع الله!

استفهام يراد به (التعجب)، والمراد منه التعجب من فعل ما، كقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله} (البقرة:28). ونحوه قوله سبحانه: {ما لي لا أرى الهدهد} (النمل:20).

استفهام يراد به (العتاب)، والمراد منه معاتبة المخاطَب على فعل ما، كقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (الحديد:16)، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان ببن إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين. ومنه قوله سبحانه معاتباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (التوبة:43).

استفهام يراد به (التذكير)، والمراد بهذا الاستفهام تذكير المخاطَب بأمر ما، نحو قوله تعالى: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} (البقرة:33). وعلى هذا النحو، قوله سبحانه: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} (يوسف:89).

استفهام يراد به (الافتخار)، كقوله تعالى: {أليس لي ملك مصر} (الزخرف:51)، قصد بذلك الافتخار على موسى عليه السلام.

استفهام يراد به (التهويل والتخويف)، كقوله تعالى: {الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة} (الحاقة:1-3)، فالاستفهام هنا تخويف لما يكون في هذا اليوم. ومنه قوله سبحانه: {ماذا يستعجل منه المجرمون} (يونس:50)، تهويل للعذاب الذي يستعجلونه.

استفهام يراد به (التفخيم)، وهو استفهام يراد منه تفخيم أمر ما، كقوله سبحانه: {وما أدراك ما عليون} (المطففين:19)، أي: ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} (الواقعة:27)، أي: إن شأنهم عظيم عند الله.

استفهام يراد به (التكثير)، كقوله تعالى: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} (الزخرف:6)، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء. وعلى هذا قوله سبحانه: {وكم أهلكنا من القرون} (الإسراء:17).

استفهام يراد به (التسوية) بين أمرين، كقوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة:6)، أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه أنهم لا يؤمنون. ومنه قوله سبحانه: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} (إبراهيم:21).

استفهام يراد به (الأمر والطلب)، كقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} (المائدة:91)، أي: انتهوا؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (انتهينا يا رسول الله). ومنه قوله سبحانه: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم} (آل عمران:20)، أي: أسلموا.

استفهام يراد به (التنبيه والتفكر)، كقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} (البقرة:243)، والمعنى في هذا ونحوه: انظر بفكرك في هذه الأمور، وتنبه لما تحمله من دلالات وإرشادات. ومن هذا القبيل، قوله سبحانه: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة:130).

استفهام يراد به (الترغيب)، وهو استفهام يراد منه الترغيب في فعل أمر ما، كقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} (البقرة:245). ومنه قوله سبحانه: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} (الصف:10).

استفهام يراد به (النهي) عن أمر ما، كقوله تعالى: {أتخشونهم} (التوبة:13)، أي: لا تخشوا الكفار. ومنه قوله سبحانه: {ما غرك بربك الكريم} (الانفطار:6)، أي: لا تغتر.

استفهام يراد به (الدعاء)، وهو كالنهي إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} (الأعراف:155)، أي: لا تهلكنا. وجعل بعضهم من هذا القبيل قوله سبحانه: {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة:30)، أي: لا تجعل في الأرض من يفسد فيها؛ إذ هم لم يستفهموا؛ لأن الله سبحانه قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}.

استفهام يراد به (التمني)، كقوله تعالى: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} (الأعراف:53). ومنه قوله سبحانه: {هل نحن منظرون} (الشعراء:203)، فهذا منهم على جهة التمني والرغبة حيث لا تنفع الرغبة.

استفهام يراد به (الاستبطاء)، كقوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} (يونس:48)، بدليل قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} (الحج:47)، وقوله: {ويقولون متى هو} (الإسراء:51). ومنه قوله سبحانه: {متى نصر الله} (البقرة:214).

استفهام يراد به (التحضيض)، بمعنى الحض على فعل ما، كقوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} (التوبة:104)، والمراد: التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما. ونحو ذلك قوله سبحانه: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (النور:22).

استفهام يراد به (التجاهل)، كقوله تعالى: {قالوا وما الرحمن} (الفرقان:60)، قالوا ذلك على سبيل التجاهل والوقاحة. ومنه قوله سبحانه: {هل ندلكم على رجل ينبئكم} (سبأ:7)، يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك من باب التجاهل.

استفهام يراد به (التحقير)، كقوله تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} (الأنبياء:21)، فالمراد من الاستفهام هنا تحقير هذه الآلهة. ونحو هذا قوله سبحانه: {إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون} (الشعراء:70)، استفهام بمعنى التحقير.

استفهام يراد به (الاستبعاد)، كقوله سبحانه: {أو آباؤنا الأولون} (الصافات:17)، والمعنى: أيُبعث أيضاً آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل؛ ونحوه كقوله تعالى: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} (الرعد:5).

استفهام يراد به (التهكم والاستهزاء)، كقوله تعالى: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك} (هود:87)، قالوا له ذلك على سبيل التهكم. ومنه قوله سبحانه: {قل أأنتم أعلم أم الله} (البقرة:140)، قال أبو حيان: لا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل: أهم أزيد علماً أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء.

استفهام يراد به (الإخبار)، كقوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} (النور:50)، فالآية تخبر عن المنافقين، وأن أمرهم لا يخرج عن أن يكون في قلوبهم مرض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {هل أتاك حديث الغاشية} (الغاشية:1).

هذه بعض الدلالات التي يخرج بها لفظ الاستفهام عن حقيقته في أسلوب القرآن. ومن المهم أن تعلم، أن المفسرين قد يختلفون في بعض مواضع الاستفهام فيرجح بعضهم معنى، ويرجح آخر معنى غيره؛ لدليل يصلح لهذا الترجيح. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى} (طه:17)، فقد حمل كثير من المفسرين الاستفهام هنا على أنه للتقرير، وحمله ابن عاشور على أنه للتنبيه، فتأمل، ولا يفوتك هذا.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة