الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التقديم والتأخير في القرآن الكريم

التقديم والتأخير في القرآن الكريم

التقديم والتأخير في القرآن الكريم

للقرآن الكريم معاني أولية، وهي معاني كلماته وجمله، وهناك معان ثانية، وهذه المعاني تؤخذ من نظمه البديع؛ فتقديم كلمة في آية، وتأخيرها في أخرى، يعطي معنى ثانياً غير المعني الذي تعطيه الألفاظ. ولا يتقدم اللفظ في القرآن ذكراً، أو يتأخر إلا لموجب وغرض، علمه من علم، وجهله من جهل.

وموضوع التقديم والتأخير في القرآن شغل المفسرين منذ ظهور الظاهرة القرآنية، وهو لا يزال يشغلها، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد تعرض السلف لموضوع التقديم والتأخير في القرآن الكريم، ووردت عنهم أخبار في هذا الخصوص، تؤكد وجود هذا الأسلوب في القرآن، وتكشف شيئاً من أمره، نذكر من ذلك:

ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فقالوا أرنا الله جهرة} (النساء:153)، قال: هو مقدم ومؤخر؛ إنهم إذ رأوا الله فقد رأوه، وإنما قالوا جهرة: أرنا الله. قال الطبري: يعني أن سؤالهم كان جهرة.

وروي عن قتادة في قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} (التوبة:55)، قال: هذا من تقاديم الكلام، أي: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم في الآخرة.

وروي عنه أيضاً في قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك} (آل عمران:55)، قال: هذا من المقدم والمؤخر، أي: رافعك إلي ومتوفيك.

وروي عن مجاهد في قوله تعالى: {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما} (الكهف:1-2)، قال: هذا من التقديم والتأخير، أي: أنزل على عبده الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً.

وروي عن عكرمة في قوله تعالى: {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:26)، قال: هذا من التقديم والتأخير. يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.

وبحث العلماء أسلوب التقديم والتأخير في القرآن الكريم، وكشفوا النقاب عن حقيقته والغاية منه، وبينوا أغراضه وأنواعه، ونوهوا بقيمته البيانية والبلاغية، ونُقل عنهم في هذا الصدد عبارات من المفيد استحضارها. فالإمام الجرجاني يصف أسلوب التقديم والتأخير في القرآن بأنه "باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفترُّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك، أن قُدِّم فيه شيء، وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان".

وتحدث الزركشي عن أسلوب التقديم والتأخير في لسان العرب، واعتبر أن "القول في التقديم والتأخير هو أحد أساليب البلاغة، فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام، وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق".

وذكر السيوطي أن القرآن قد يقدم لفظاً في موضع، ويؤخره في آخر، والقصد من ذلك؛ إما مراعاة السياق، كما في قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135) وقوله سبحانه: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة:8). وإما التفنن في الفصاحة، وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} (البقرة:58)، وقوله سبحانه: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} (:161).

وقد أفرد في هذا الباب ابن الصائغ كتاباً، سماه: "المقدِّمة في سر الألفاظ المقدَّمة"، بيَّن فيه أن الغرض من هذا الأسلوب تقديم ما هو جدير بالتقديم، وتأخير ما هو حريٌّ بالتأخير، ونقل عن سيبويه في هذا الصدد، قوله: "كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهم ببيانه أعنى".

وأكد جلُّ المفسرين وجود هذا الأسلوب في القرآن الكريم، وعبارتهم في هذا الصدد كثيرة، كقولهم: "هو على التقديم والتأخير"، وقولهم: "في الآية تقديم وتأخير"، وقولهم: "هو من المقدَّم الذي معناه التأخير".

وقد ذكر أهل العلم أسباباً عديدة، ومقاصد متنوعة، تكمن وراء هذا الأسلوب القرآني، نلخصها على النحو الآتي:

التقديم بقصد (التبرك)، مثاله قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (الأنفال:41). ذهب أكثر المفسرين إلى أن قوله: {لله} افتتاح كلام على سبيل التبرك، وإضافة هذا المال إلى الله لشرفه، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً، فإن الدنيا والآخرة كلها لله سبحانه.

التقديم بقصد (التعظيم)، كقوله سبحانه: {ومن يطع الله ورسوله} (النساء:13)، فتقديم لفظ الجلالة في هذه الآية ونحوها على لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تعظيماً له سبحانه، مع أن طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعته سبحانه وتعالى.

التقديم بقصد (التشريف)، كتقديم الحر على العبد في قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} (البقرة:178)، فإن الحر أشرف من العبد، فاقتضى تقديمه. وتقديم الحي على الميت، كقوله سبحانه: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} (فاطر:22)، فإن الحي أشرف من الميت، فاقتضى الأمر تقديمه.

التقديم مراعاة لـ (المناسبة)، كقوله تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} (النحل:6)، فإن الجَمَال بالجِمال وإن كان ثابتاً لها حالتي الذهاب إلى المرعى والرجوع منه، إلا أنها حالة مجيئها من الرعي يكون الجمال بها أفخر وأظهر، إذ بعد تناولها للطعام تدب فيها الحيوية والنشاط، فيكون مظهرها أبهى، بينما في حالة الذهاب إلى المرعى تكون جائعة هزيلة، فكان تقديم أجمل الحالين من أمرها أنسب للسياق. ومن هذا القبيل مراعاة مناسبة ما حقه التقديم على ما حقه التأخير، كقوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} (الحجر:24)، فالمتقدمين أولى بالتقديم في الذكر من المتأخرين.

التقديم بقصد (الحث على أمر، والحض على القيام به؛ حذراً من التهاون به)، كتقديم الوصية على الدَّين في قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (النساء:11)، فإن وفاء الدين سابق على الوصية، لكن قَدَّم الوصية؛ حثاً عليها، وحضاً على القيام بها. وعلى هذا النحو، قوله سبحانه: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى:49)، قدم الإناث؛ حثاً على الإحسان إليهن، وحضاً على رعايتهن.

التقديم بقصد (السبق)، و(السبق) إما يكون في الزمان باعتبار الإيجاد، كتقديم الليل على النهار في قوله سبحانه: {واختلاف الليل والنهار} (البقرة:164)، وكتقديم الظلمات على النور في قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام:1). وإما يكون (السبق) باعتبار الإنزال، كقوله تعالى: {صحف إبراهيم وموسى} (الأعلى:19)، وإما يكون (السبق) باعتبار التكليف، كقوله سبحانه: {اركعوا واسجدوا} (الحج:77).

التقديم بقصد (السبب)، كتقديم العزيز على الحكيم، في قوله سبحانه: {إنك أنت العزيز الحكيم} (البقرة:129)؛ لأنه عز فحكم. ونحو هذا تقديم العليم على الحكيم، كما في قوله سبحانه: {إنك أنت العليم الحكيم} (البقرة:32)؛ لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم. ونحوه قوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (البقرة:222)؛ لأن التوبة سبب الطهارة.

التقديم بقصد بيان (الكثرة)، مثاله قوله تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن:2)؛ لأن الكفار أكثر. ونحوه قوله سبحانه: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر:32)؛ قدم الظالم لكثرة الظالمين، ثم المقتصد ثم السابق.

التقديم بقصد بيان (القدرة) الإلهية، كقوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} (الأنبياء:79)، قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب، وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد، والطير حيوان ناطق.

التقديم بقصد رعاية (الفاصلة) القرآنية، كقوله تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} (طه:67)، فلو أخر {نفسه}، وقدم {موسى} لفات تناسب فواصل الآيات السابقة واللاحقة؛ إذ إن قبله قوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه:66)، وبعده قوله سبحانه: {إنك أنت الأعلى} (طه:68).

التقديم بقصد (الاهتمام) بالمقدَّم، وهذا كثير في القرآن، منه قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} (البقرة:43)، فبدأ بالأمر بالصلاة؛ لأنها أهم العبادات. ومنه قوله سبحانه: {وبالوالدين إحسانا} (البقرة:83)، قدم الجار والمجرور {وبالوالدين} على المصدر {إحسانا}؛ للاهتمام به.

التقديم بقصد (الاختصاص)، كقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة:5)، أي: نخصك بالعبادة، فلا نعبد غيرك، ونخصك بالاستعانة، فلا نستعين بأحد سواك. ونحو هذا قوله سبحانه: {إن كنتم إياه تعبدون} (البقرة:172)، أي: إن كنتم تخصونه بالعبادة، دون سواه.

التقديم بقصد (التحذير والتنفير)، كقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} (النور:3)، فقد قدم الزانية على المشركة، مع أن جريمة الشرك أشنع؛ وذلك تحذيراً من الزنى، وتنفيراً عنه. ونحو هذا قوله سبحانه: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} (آل عمران:14)، قدم ذكر النساء على البنين؛ لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد.

وقد فصل الزركشي في "البرهان" في أسباب التقديم والتأخير، وذكر أسباباً أُخر للتقديم والتأخير، لا يسعف المقام بذكرها، فمن أراد التوسع في هذا الجانب فليرجع إليه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة