الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حين يصنع الفلسطيني مُدمرته اضطراراً

حين يصنع الفلسطيني مُدمرته اضطراراً

حين يصنع الفلسطيني مُدمرته اضطراراً طرحت في الآونة الأخيرة من جديد، لدى بعض الجهات والحكومات الأوروبية، مسألة مقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلة منذ العام 1967، بمعنى الضفة الغربية والقدس المحتلة، وهضبة الجولان السورية المحتلة، كون أوروبا ثاني سوق في العالم بالنسبة للصادرات الإسرائيلية، إذ أن السوق الأولى هي الولايات المتحدة الأميركية.

وتحظى البضائع الإسرائيلية بامتيازات جمركية في الأسواق الأوروبية، بموجب اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه الاتفاقيات من المفترض أن لا تشمل البضائع الإسرائيلية التي يتم إنتاجها في المناطق المحتلة منذ العام 1967، ولكن بموجب ما يمكن فهمه، فإن "إسرائيل" تتحايل على هذه الاتفاقيات من أجل تمرير بضائع المستوطنات أيضاً لتحظى بهذه الامتيازات.

وإذا كنا في الأسبوعين الأخيرين سجلنا موقفاً سلبياً جداً للحكومة البريطانية لمعارضتها قرار محكمة بريطانية باعتقال مجرمة الحرب تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، فإننا ومن باب الموضوعية، نسجل للحكومة البريطانية موقفاً إيجابياً من مسألة منتوجات المستوطنات، إذ أنها العنوان الأبرز في هذه الفترة للحراك في الساحة الأوروبية، من أجل محاصرة منتوجات المستوطنات وعدم شملها باتفاقيات الامتيازات الأوروبية.

ولكن هذا الموقف الإيجابي نشهده أيضاً لدول أوروبية أخرى، خاصة في أوروبا الشمالية، ومنها السويد، إذ تبين في الأيام الأخيرة، أن جمعيات حقوقية سويدية والكنيسة السويدية ضغطت على شركة سويدية لصناعة أقفال الأبواب لإخراج مصنع لها من إحدى مستوطنات الضفة الغربية، وإلا سيتم إدراج منتوجاته على قائمة بضائع المستوطنات لمقاطعتها.

ونذكر هنا، من باب الموضوعية أيضاً، أن من خلف هذه التحركات هناك دور جدي جداً لحركة إسرائيلية صغيرة متواضعة من حيث الإمكانيات، وتدعى "تكتل السلام"، وهي حركة تناضل ضد الاحتلال، ولكن من مميزاتها أن تحرض أسواقاً عالمية على مقاطعة بضائع المنتوجات، وتوزع على من يريد من الإسرائيليين، وهم قلة، قوائم بالبضائع لمقاطعتها.

ومما لا شك فيه، أن مقاطعة منتوجات المستوطنات الإسرائيلية لها مردود إيجابي في أكثر من اتجاه، فأولاً هذه مقاطعة اقتصادية، والاقتصاد هو عصب هذه المستوطنات، ولكن إلى جانب هذا، فإن مجرد الانشغال بهذه القضية وتردّدها في وسائل الإعلام، يؤكد في وعي الرأي العام عدم شرعية هذه المستوطنات، التي هي جزء أساسي من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها "إسرائيل" على مر السنين.

ولكن إحدى أبشع جرائم الاحتلال تتجلى في مشهد مُحزن ومثير للغضب في آن واحد، ولكن ليس الغضب على الضحية المباشرة في ذلك المشهد، وهو الكم الهائل من العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة، وقبل ذلك أيضاً من قطاع غزة، الذين يعملون في تلك المستوطنات بدءاً من بنائها، وحتى العمل في مرافقها الاقتصادية على شتى أنواعها.

من الخطورة والظلم إطلاق الأحكام القاسية على هؤلاء العمال، وفي نفس الوقت لا يمكنني التبرير أو القبول بهذه الظاهرة، وهذه هي المعضلة الأساسية في طرح قضية كهذه.

فمن ناحية، هؤلاء العمال يعيشون حالة حصار اقتصادي على مر عشرات السنوات، والحصار يبدأ من تقييد الحركة والازدهار والتطور، وضرب مصادر الرزق على مختلف أنواعها، وهذا ترجمة للعقلية الصهيونية العنصرية الخطيرة، التي تسعى لجعل الشعب الضحية، شريحة ضعيفة اقتصادياً بالأساس، ليكون همها الأساسي الركض وراء لقمة الخبز اليومي، وليس النضال ضد الاحتلال، وهذه سياسة تنتهجها المؤسسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في مناطق 1948 و1967 على حد سواء، ولكن الأشكال تتغير، بموجب طبيعة المنطقة والحالة التي تسودها.

ولهذا فإن العامل الفلسطيني يجد نفسه في مرحلة ما أنه أمام خيار اللامفر، ويضطر للعمل في مشاريع قائمة على أرضه المسلوبة، تهدف إلى حرمانه كلياً من إمكانية إقامة دولته المستقلة، والعيش بحرية فيها، من أجل منع جوع أطفاله.

ولكن أيضاً لا يمكننا تجاهل مساهمة مسألة اللاوعي في تنامي هذه الظاهرة الخطيرة والمحزنة، بمعنى وجود مجموعات تتجه للعمل في المستوطنات فوراً ومن دون حسابات وطنية، أو من دون البحث عن خيارات أخرى، رغم قلتها، وهذا موجه أيضاً لقطاع من المقاولين والعمال من بين فلسطينيي 48، الذين من المؤكد أن خيار العمل في المستوطنات ليس الوحيد أمامهم.

وفي المقابل فإن "إسرائيل" تستثمر تشغيل الفلسطينيين في المستوطنات ومرافقها الاقتصادية بعدة جوانب، فأولاً يتم تشغيل الفلسطينيين بأجور زهيدة جداً، ورواتب جوع، وهذا ما يعزز اقتصادها أكثر، وثانياً، فإنها تحاول مواجهة دعوات مقاطعة منتوجات المستوطنات، بزعم أنها تشكل "مصدر رزق" للفلسطينيين، وهذه الحالة كانت قائمة في نظام الأبرتهايد العنصري الزائل، إذ كانت جنوب إفريقيا العنصرية في حينه تقول إن مقاطعة منتوجاتها أمر سيئ للعمال السود، حتى جاء الرد بأن نظام الأبرتهايد أشد سوءاً للعمال السود.

بطبيعة الحال، فلو أن نظام الأبرتهايد لا يزال قائماً، لتعلم في هذه السنوات الكثير من الصهيونية العنصرية.

ومرة أخرى تجدر الإشارة إلى أننا لا نتحدث هنا عن غالبية العمال الفلسطينيين، ولكنهم يشكلون نسبة ملموسة، ورغم طرح القضية وتفسيراتها، ولا نقول تبريراتها، فإنه من غير المعقول أن لا تكون هناك خطة استراتيجية عامة على المستوى الفلسطيني والعربي وحتى العالمي لمواجهة ظاهرة عمل الفلسطينيين في المستوطنات، إن كان على مستوى رفع الوعي، أو على مستوى خلق البدائل.

bjaraisi@gmail.com

ــــــــــــــــــــــــ

صحيفة العرب القطرية

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة