الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القنوات الإسلامية .... بين الدعوة والربح

القنوات الإسلامية .... بين الدعوة والربح

لا يستطيع المتابع للحراك الإعلامي في المجتمع في السنوات الأخيرة أن يغض طرفه، أو يتجاوز عن المساحة الإعلامية الكبيرة التي كسبتها القنوات الفضائية الدينية في الخريطة الإعلامية من خلال نسبة المشاهدة وحجم الاهتمام والتأثر بهذه القنوات عند عامة المسلمين وبعض خواصهم. بحيث لا تكاد تدخل بيتا إلا وجدت ذكراً لإحدى هذه القنوات، أو جدالا حول أحد البرامج المعروضة فيها بالمديح والثناء تارة، والاستنكار والشجب تارة أخرى، ومما يؤكد هذا المعنى أن كثيرا من الدعاة الذين لم يكن الكثير من المسلمين يعرفونهم صاروا نجوما ومشاهير لهم جمهورهم ومحبوهم ومتابعو برامجهم التي تذاع في هذه القنوات.

ولعل ظهور هذه القنوات في الآونة الأخيرة وانجذاب الناس إليها ـ خاصة بعد حجم المشاهدة الكبيرة الذي حققته هذه القنوات في شهر رمضان الكريم ـ من أكبر الأدلة على وجود الفطرة السليمة لدى عامة المسلمين، تلك الفطرة التي لم تكن تحتاج إلا إلى حجر صغير يلقى في مياهها الراكدة لكي تتحرك وتجري في النفوس مرة أخرى لتهتز وتربو وتخرج ثمارها الطيبة بإذن ربها.

ومع أهمية الدور الذي تلعبه هذه القنوات في تزكية النفوس وتوجيهها الوجهة الدينية الصحيحة، ومع تنامي هذه القنوات وانتشارها يقع على القائمين عليها عبء كبير في توجيه الرسالة الإسلامية توجيها صحيحا للجمهور المسلم خاصة العامة الذين ليس لهم معرفة، وليس لديهم وقت للمراجعة والبحث والسؤال عما يسمعونه من خلال هذه القنوات، بل يتلقى معظمهم ما يقال في هذه القنوات على أنه الحق الزلال الذي لا يشوبه باطل.

ولكي يؤدي القائمون على هذه القنوات الأمانة المناطة بأعناقهم، وما أثقلها من أمانة؟! حيث ينطبق عليهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: "من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا".

أقول لكي يؤدي القائمون على هذه القنوات الأمانة كما ينبغي عليهم أن ينتبهوا إلى بعض النقاط المهمة التي تساعدهم في أداء هذه الأمانة ومن هذه النقاط ما يلي:

أولاً: الدعوة أولاً وأخيراً:
الفرق الرئيسي بين الإعلام الإسلامي وغيره أن الأول لا يجعل الإعلام غايته وهدفه؛ بمعنى أن الإعلام ليس للإعلام، والفن ليس للفن، وإنما هذه وسائل لغايات نبيلة وعظيمة، فالإعلام الإسلامي هدفه إبلاغ دعوة الحق إلى الخلق، فهو وسيلة دعوية هدفها بيان الحق والخير للناس وتحفيزهم عليه، وتحذيرهم من الباطل والشر ومحاولة صرفهم عنه.

ومن ثم ينبغي أن تكون الدعوة في مخيلة وتصور وحس القائمين على هذه القنوات؛ فتسخر من أجلها جميع البرامج واللقاءات والحوارات، بل والإعلانات والرسائل أيضا تترجم كلها في منظومة دعوية حقيقية، فلا يوافق على عرض عمل من هذه الأعمال إلا بعد السؤال عن اتساقه مع الدعوة الإسلامية ومبادئ الإسلام، وعن مردوده الدعوي على المستمعين والمشاهدين.

وهنا ننبه على ملاحظة جديرة بأن توضع في الاعتبار وهي: أن الإعلانات عن منتجات بعض الشركات أمر يدر على هذه القنوات ربحا هي في أشد الحاجة إليه، لكن الغش الذي يكون في هذه المنتجات لا يؤثر على سمعة هذه الشركات فقط، وإنما يؤثر بالضرورة على سمعة القناة التي تعرض هذه المنتجات، وإذا كانت هذه القناة من القنوات الإسلامية فإن الأمر سينسحب على الإسلام نفسه عند ضعيفي الفهم وما أكثرهم؟!

ثانياً: الدعوة إلى الإسلام لا إلى الجماعة والأفكار:
تحاول كل قناة دينية أن تتميز عن غيرها، وهذه منافسة طيبة تثري العمل الإعلامي الدعوي، لكن هذا التميز لا يأتي من خلال إبراز فكر أو اتجاه معين وتقديمه على حساب الإسلام باتجاهاته وأفكاره واختلاف علمائه ومفكريه، فينبغي تغليب مصلحة الإسلام على مصلحة الجماعة، وينبغي أن تحملنا الأمانة الدعوية على عرض جميع الآراء بأدلتها عرضا متساويا، مع إظهار مواطن الاختلافات في الأحكام الفرعية، وعدم حمل المشاهد على مذهب بعينه، وتسفيه بقية الآراء المعتبرة في المسألة.

ومن ذلك ـ أيضا ـ إفساح المجال لكل العلماء الموثوق في علمهم وفكرهم بالظهور على شاشة جميع القنوات دون النظر إلى انتماءاتهم الفكرية والدعوية، بشرط ألا يستغل العالم تلك المساحة الإعلامية في الدعوة إلى جماعته، وتزكية اتجاهاته الفكرية، وهذا يدفعنا إلى النقطة الثالثة وهي:

ثالثاً: التعاون والتكامل لا التنافر والتضاد:
إن هذه القنوات مع ما حباها الله من مساحة إعلامية، وقبول عند الناس، يقع عليها عبء كبير في توحيد جهود الأمة الإسلامية وأفكارها واتجاهاتها العامة في قضاياها الرئيسية، فينبغي أن تسعى إلى الوحدة لا إلى الفرقة، والتكامل لا التنافر من خلال تعاون بناء مثمر بالسعي إلى تكوين اتحاد إعلامي لهذه القنوات تنبثق عنه وثيقة إعلامية إسلامية تلتزم بها جميع القنوات الإسلامية. هذه الوثيقة لا ينفرد بوضعها الإعلاميون الإسلاميون فقط، بل يكون صاحب التصور والكلمة العليا فيها هم كبار علماء الأمة المشهود لهم بالورع والفقه وسعة الوعي والاطلاع والإلمام بالمستجدات، وينبغي أن تركز هذه الوثيقة على أمرين في غاية الأهمية وهما:
1- موقف هذه القنوات من القضايا الخلافية القديمة والحديثة...كيفية عرضها وتناولها؟ وتوقيت ظهورها؟ ... ونحو ذلك.
2- القضايا المستجدة على ساحة المجتمع الإسلامي، والوقوف عندها، أو غض الطرف عنها، أو تناولها بقوة وتركيز، أم تناولها ببساطة وتخفيف.. ونحو ذلك.

وحبذا لو شكلت من خلال هذا الاتحاد للإعلام الإسلامي هيئة شرعية من كبار علماء الإسلام يرجع إليهم في هذا الصدد. ومن خلال هذا الاقتراح ندلف إلى النقطة الرابعة وهي:

رابعاً: المراجعة والتدقيق قبل العرض:
مع كثرة البرامج المعروضة على شاشة القنوات الدينية، ومع محاولة هذه القنوات شغل اليوم كله بالجديد والجذاب تأتي برامج كثيرة مكررة ومملة، بل بعضها ينطوي على أخطاء: مثل برامج الفتاوى اليومية، وبرامج تفسير الأحلام وغيرهما، وتلاحظ أن السؤال يدور على جميع القنوات فتأتي الإجابات مختلفة ومتناقضة،.. وعلاج ذلك أن يحدث تنسيق بين هذه البرامج، وتتحول برامج الفتاوى إلى برامج متنوعة ومتكاملة؛ بمعنى أن يكون هناك برنامج أسبوعي لفتاوى العبادات، وآخر في قناة أخرى للمعاملات، وثالث للأسرة والقضايا الاجتماعية ... وهكذا، ويبتعد العلماء قدر الإمكان عن الأسئلة المتكررة التي مل الناس سماع إجابتها، ولو خصص العالم لكل حلقة بابا معينا من الفقه، وعرضه على شكل أسئلة وأجوبة مع تلقي أسئلة في الباب نفسه؛ لأفاد المشاهدين فائدة كبيرة.

أما علاج بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الضيوف والمقدمين للبرامج؛ فيتأتى علاجها بوجود لجنة علمية داخل كل قناة لمراجعة ما يعرض فيها من جميع النواحي العقدية والشرعية واللغوية والإعلامية، مع التقليل من برامج الهواء ـ خاصة للدعاة والمقدمين الجدد ـ والإكثار من البرامج المسجلة المراجعة لأمثال هؤلاء.

خامساً: الربح بالوسائل الدعوية الهادفة:
لا مانع أن يكون من أهداف هذه القنوات إحراز جانب من الربح، خاصة وعالم الإعلام لا يثبت ويتمكن فيه إلا صاحب القوة المادية، لكن القنوات الدينية تختلف عن غيرها في طلب هذا الربح، فلا تجعله هدفها الأول ـ كما سبق أن ذكرت في النقطة الأولى ـ وفي نفس الوقت تحصل عليه من خلال برامج وإعلانات ذات هدف تربوي أو اجتماعي أو اقتصادي... تصب في مصلحة الدعوة وأهدافها، فلا تسمح لنفسها بأن تكون مجالاً لعرض النساء نفسها على الرجال بطريقة ممجوجة من خلال الرسائل القصيرة كالتي تريد زوجا سعوديا أو مصريا أو طويلا أو حسن المنظر، ويعرض الرجال رغباتهم في زوجة حسنة المنظر فارعة الجمال غنية ... وغير ذلك. أو من خلال المسابقات الهاتفية لأسئلة سطحية تافهة، أو من خلال تعمد إطالة الحديث في الهاتف من خلال مقدم البرنامج لتستفيد القناة... ونحو ذلك من الأساليب الرخيصة التي تحط من شأن القناة، وتقلل من قيمتها الدعوية.

إن كل قناة فتحت باسم الإسلام، أو ستفتح باسمه ليست مجرد قناة تضاف إلى القنوات التي امتلأت بها ساحات الفضائيات، بل هي صورة للإسلام عند كثير من الناس في كل مكان، ومن ثم ترصد سيئتها وتنشر عوراتها أكثر من غيرها شأنها في ذلك شأن المنبر حين قال عنه حكماؤنا "كذبة المنبر بَلْقاء مشهورة".

ولذا على القائمين عليها أن يدركوا ما هم عليه من خطر، وما يحملونه في أعناقهم من أمانة نحو الإسلام، وعسى أن تكون النقاط السابقة بداية خير لدراسات ومحاورات ومناقشات جادة بناءة للارتقاء بالعمل الإعلامي الإسلامي.

ــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد رمضان أبوبكر

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة