الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بين حتمية الواقع وتغيير المنكر

بين حتمية الواقع وتغيير المنكر

بين حتمية الواقع وتغيير المنكر

لا شك أن معالم الدين اليوم تأخذ في الغربة، تلك الغربة التي نبأنا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ حيث قال: « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء ». (رواه الطبراني).
والغرباء هم: «الذين يَصلُحون عند فساد الناس»، وهم: «الذين يُصلِحون ما أفسد الناس (من بعدي) من سنتي»(رواه الترمذي).

ومن أنباء الغربة أن طائفة من المؤمنين يظهرون وينتصرون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله». فما داموا على الحق فسيظهرون، وما داموا على الحق فلـن يضرَّهم من خذلهم ولا من خالفهم، بل يُعَدُّ كونهم عى الحق من أبرز معطيات هذا الحديث.

ولا يكون فرد أو طائفة من الأمة على الحق في جهادهم ودعوتهم؛ إلا باتباع سبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: ٨٠١]، وسبيلِ صالح ســلف الأمة من الصحـابة والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسان: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ٥١١] .

ومِن أهم معالم المنهج النبوي في الدعوة إلى الله: تغيير المنكر. ولا يُعذَر أحدٌ في ذلك؛ كما جاء في الحديث: «من رأى منكم منكراً، فليغيره». وإنما الإعذار يكون في النزول عن مرتبة من مراتب الإنكار إلى مرتبة أقل منها لتعذُّر الاستطاعة. روى مسلم في صحيحه، فقال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ الصَّلاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعيدٍ: أمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه.ِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".

هذه الحادثة حوت مرتبة الإنكار باللسان من الرجل ومن أبي سعيد؛ حيث لـم يَقْدِرا على التغييـر باليد. وَفِقْـه المسـألة أن التغييـر باليـد واللسـان واجـب على من قَـدَر عليهما (بالضوابط الشرعية)؛ أما التغيير بالقلب فواجب عينيٌّ، "وذلك أضعف الإيمان".

لقد بُلينا في هذه الحقبة من الزمان بتعليل تَرْك التغيير والإنكار بكون هذا المنكر أصبح واقعاً وأنه موجود شئنا أم أَبَينا... وهذه لغة المهزومين من الأمة.

وهذه الطريقة على خلاف منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلقد بُعث ـ عليه الصلاة والسلام ـ وفي المسجد الحرام الكثير من الأصنام التي اتخذها الناس أنداداً من دون الله (رؤساؤهم وعوامهم)؛ ولم يتعامل معها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنها أمر واقع، ولـم يكن - صلى الله عليه وسلم - يؤمن بحتمية الواقع، بل صدع بالتوحيدِ ونَبْذِ الأصنام ونَبْذِ كل ما يخالف أمر الله.

وكان هذا الأمر من الوضوح بمكان لدى السفراء والرسل الذين يحدِّثون الناس عن طبيعة دعوتهم. وما هي إلا سنوات قليلة في عمر الأمم، وإذا ببوصلة التمكين يتغير اتجاهها، وإذا بالواقع (الحتمي) يتغير، بل ينقلب رأساً على عقب، وتصبح الجزيرة العربية جزيرةَ الإسلام.

إن لدينا رصيداً، هو أعمق من كل معطيات الأحداث، وهو: رصيد الإيمان والثقة بتأييد الله.. يقول - تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:17]، ويقول - سبحانه -: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْـمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: ٢١]، ويقول أيضا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 – 173]، ويقول كذلك: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، ويقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥].

عمل دؤوب يَعْقُبه فتح
إن التغيير عمل دؤوب يَعْقُبه فتح من الله.
في القرن الثالث الهجري حلَّت على الأمة واقعة القول بخلق القرآن، وامتُحن الناس في ذلك بَلْهَ العلماءَ؛ حتى ترخَّص مَن ترخَّص وتأوَّل مَن تأوَّل. حينها كان الواقع بئيساً؛ فلم يكن ذلك ليبرر لأحمد بن حنبل الشيباني أن يرضى بالأمر الواقع وأن يتكيف معه ويترخَّص؛ كلاَّ! وهو السلفي الصرف، بل صدع بتغيير هذا المنكر بلسانه أمام أعلى سلطة وقال: القرآن كلام الله مَنَزَّل ليس بمخلوق.

لقد ضُرب وجُلد وحُمل على الدواب تنكيلاً، وأهدر أئمةُ المعتزلة دمه... وما كان ذلك ليصده عن التغيير، وتوالى على تعذيبه ومحاولة ثنيه عن قوله ثلاثة خلفاء: المأمون والمعتصم والواثق؛ فصبر على (فتواه) حتى فتح الله عليه بتولِّي الخليفة المتوكل؛ حيث نصر السُّنة وأهلها وقمع البدعة ورأسها.
يا تُرى! ماذا لو رضي أحمد بن حنبل بالواقع؟ كم سيكون من الوبال الذي سيجرُّه على الأمة؟ حاشاه. وهل تُراه سيكون إماماً لأهل السُّنة والجماعة؟

وفي القرن الثاني عشر الهجري بلغت الجزيرة مَبْلغها من الشرك العظيم ألواناً وأشكالاً، تسنده قوىً طاغية: من رؤساء العشائر والقبائل، ومن إقرار العلماء له؛ غير أن ذلك لم يكن ليثني محمد بن عبد الوهاب التميمي عن الصدع بالتوحيد وتجديد معالم الدين، وهو ما أوقعه في نزاعات طويلة وحروب ومعارك... أَمَا كان يسعه ما وسع العلماء في زمانه من الصمت على الشركيات؟ أَرَضي بالأمر الواقع؟ وما ذا لو قال: ينبغي أن نعزز لدينا ثقافة المناعة دون أن نهدم معالم الشرك من الأضرحة والمشاهد وغيرها؟

كل ذلك يُعدُّ لدى الإمام المجدد جبرية مُزجَت بإرجاء، عياذاً بالله؛ لذلك ما كان له إلا أن يسعى للتغيير الجذري بخطىً متدرجة، جمعت بين التعليم والتربية والجهاد والسياسة؛ فرحمه الله رحمة واسعة.
وهكذا دَأْب المجددين والمصلحين. ولا يكون النصر والتمكين حليفين إلا لمن: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ} [الحج: ١٤] ولم يخضعوا للواقع ويعتقدوا بالجبر في مسائل الإنكار.
إن المهزومين من الأمة مسكونون بـ (حتمية الواقع). وأهل المنهج الحق لا يرضون بغير: «من رأى منكم منكراً فليغيره».

إن المهزومين يحدِّثون الناس عن وَهْمٍ ينعتونه بـ: (ثقافة المناعة) وأهل المنهج الحق يسيرون بخطىً واثقة في طريق المدافعة. وإلى الله المشتكى.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: عبد العزيز آل محبوب (البيان271)

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة