الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قصة موسى وفرعون من الاستضعاف إلى الاستخلاف (2)

قصة موسى وفرعون من الاستضعاف إلى الاستخلاف (2)

قصة موسى وفرعون من الاستضعاف إلى الاستخلاف (2)

(2) سمات الطغــاة
ــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد رسمت قصة فرعون مع نبي الله موسى وبني إسرائيل صورة واقعية كاملة الوضوح لسمات الطغاة والفراعين في كل عصر وحين.. وأبرز هذه السمات:

أولا: الطغاة لا يعرفون ولاءً إلا للكرسي:
وكل ما وراء ذلك فلا قيمة له، فهو حياتهم وهدفهم وهمتهم وكل ما يفعلونه إنما هو في الحقيقة يدور في فلك الحفاظ عليه.. وكل من أعان على البقاء فهو الحبيب القريب، ولو كان عدو الشعب والأمة، ولو كان في موالاته تضييع الدين والدولة، فالحفاظ على الكرسي هو الهدف.. وكل شيء يهدد هذا فلا بد من إزالته وقطع دابره حتى لو قتلنا نصف الشعب لا والله بل الشعب كله.

لقد رأى فرعون رؤيا أولّت له على أن نهاية ملكه على يد رجل من بني إسرائيل، رجل يهدد عرشي؟!! فأمر مباشرة بقتل كل ذكر يولد في بني إسرائيل!!. يبيد شعبا كاملا من أجل بقاء حكمه... نعم. (سنقتل أبنائهم ونستحيي نسائهم وإنا فوقهم قاهرون)

وليعلم كل ظالم وكل مستبد وكل متكبر أن الأمر كله لله، وأن ما شاء الله كان، تربى موسى في بيت من يريد قتله. وكأن لسان القدر يقول: لقد كنت تبحث عنه فقد جئنا به إليك، أنت تريد وأنا أريد و لا يكون إلا ما أريد، كنت تريد قتله ونحن سنربيه في بيتك ليكون لك بعد ذلك عدوا وحزنا، (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). والآية تدل على أن الخطأ سمة لهم فكما كانوا خاطئين في اختيار طريقة حكمهم للشعب وظلمهم وطغيانهم واستعلائهم واستكبارهم فكذلك هم خاطئون في اختيارهم لأنفسهم؛ والدليل على ذلك اختيارهم هذا الطفل ليربوه ويرعوه ليكون هلاكهم على يديه.

ومن سمات الطغاة وحدة مواقفهم من المصلحين
فمن سمات الفراعين تشابه بل تطابق موقفهم من الناصحين، وحالهم مع المصلحين، يأتي المصلحون والناصحون إلى الطغاة فلا تخرج معاملتهم لهم عن معاملة فرعون لموسى أو بعضها: لقد كبر موسى وتربى في بيت فرعون فهم يعرفونه، ثم ذهب إلى مدين، وعاد بعد عشر سنين محملا برسالة الحق إلى فرعون "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ، فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى"، (اذهبا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى
). فماذا كانت إجابة فرعون وبماذا رد عليهم؟

أولا: محاولة مقارعة الحجة بالحجة، (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ، قَالَ ربنا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، (قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين). الآيات.

ولكن حجج الباطل لا تقوى على الوقوف أمام الحق، فالحق أبلج والباطل لجلج (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة)، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).

فإذا عجزت الحجة جاء التهديد والوعيد " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين".. تماما كما قال قوم النمرود لإبراهيم بعد أن أعجزهم بحجته الدامغة "حرقوه وانصروا آلهتكم".

فإذا لم يُجد التهديد يطلق عليهم كلابه ليشنوا عليهم حملة شعواء لتشويه صورتهم أمام الرأي العام، فلهذا كان يعدُّهم، ولأجل هذا اليوم كان يرعاهم ويتركهم ليمتصوا دم الشعب ويسرقوا ماله وحريته، فهذا يوم رد الجميل، وهم أبدا لن يتقاعسوا
هاهم كما تهوى تحركهم دمى .. لا يفتحون بغير ما تهون فما
إنا لنعلم أنهــــم قـــــد جـــمعوا .. ليصفقوا إن شئت أن تتـكلما
فالظلم قبلك كان كما مهملا واليوم صار على يديك منظما

وفجأة تخرج صحف فرعون بالمانشيتات العريضة والإذاعة والتلفاز، وجميع برامج التوك شو، والمجلات وكل وسائل الإعلام بالهجوم الضاري.. وقاموس الاتهامات معروف: اتهام بالخيانة والعمالة وتنفيذ أجندات خارجية، وإثارة الفوضى والبلبلة في البلد، وتضييع مكتسبات العهد المجيد، وإيقاف مسيرة الإصلاح (الذي لم يبدأ أبدا)، وأعظم من هذا كله محاولة قلب نظام الحكم. والعجيب أن تكون هذه التهمة حاضرة في كل العصور!! فموسى وهارون إنما جاءا ليقلبا نظام حكم فرعون!! إي والله هكذا قالوا عنهما: (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين).

إن أعظم سمات الظالمين الكبر وعدم قبول الحق:
لأنهم لا يرون الحق إلا عندهم وكل ما سواه باطل، لقد أخبرهم موسى أنه إنما جاء ليدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما هم فيه من الظلم واستعباد البشر والطغيان والعلو والإفساد في الأرض وليست المسألة لا عمالة ولا خيانة ولا شيء من هذا كله.. أبَو عليه وكذبوه ..

فأخبرهم أنه جاءهم بآية من الله يدلل بها على صدق قوله ونزاهة موقفه فأصروا على عمالته وخيانته (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون)، (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى)، وأرادوا أن تكون فضيحته على رؤوس الأشهاد ليكون عبرة لغيره.. قالوا: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى)، وذهب فرعون ليحشد قوته ويجمع سحرة نظامه (وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم .. فجمع السحرة لميقات يوم معلوم.. وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)

ورغم أن الاتفاق كان واضحا بين فرعون وسحرته، وأنه منّاهم بالمناصب والأموال والزلفى منه، ليكونوا أحرص شيء على هزيمة موسى إلا أن الحق كان أوضح من ذلك فأسلموا للحق. فهل قبل فرعون الحق؟
لا .. وأنى له ذلك؟! بل إنه زاد في استغفال شعبه والاستخفاف بهم فإذا به يقول للسحرة "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر"، "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون" ونكل بهم النكال العظيم وقد كانوا سدنة نظامه منذ قليل ولكنهم خرجوا عن عبوديته وطاعته.. فجعلهم كبش فداء وهي نظرية مشهورة عند كل الظالمين.

ومن سمات الطغاة الكذب والمراوغة
لقد دعاهم موسى إلى الخير والهدى وطالبهم بالعدل والإنصاف وأتاهم بالآيات والبينات، وأقر كل الناس أن مطالب موسى مشروعة، إلا فرعون وزبانيته. فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات لعلهم يرجعون أو يرعوون؛ لكنهم استكبروا وكانوا قوما مجرمين.. فلما ضاق بهم الحال طلبوا من موسى أن يدعو الله أن يصرف عنهم البلاء وسوف يؤمنون ويتركون له بني إسرائيل؛ فدعا ربه فكشف عنهم الرجز، فلما طالبهم موسى بالوفاء بعهدهم أخلفوا وراوغوا وقالوا سنقوم بعمل لجنة للنظر ثم تنبثق منها لجنة وتتفرع منها لجان فيتوه الأمر وينسى الناس كذب فرعون ومن معه. وهكذا يتعامل الطغاة مع كل قضية فيها مطالب للإصلاح وتحسين الأحوال أو أي مطلب جماهيري، يدخلون الناس في دوامة لا نهاية لها حتى ييأس الناس من نيل مطالبهم فلا يجدون سبيلا إلا الرضا بالواقع المرير.

الطغاة مفسدون يعيشون وهم الإصلاح:
كما قال تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
ضاق فرعون ذرعا بموسى ومطالبه، خصوصا وأن بعض الناس بدؤوا يحسون صدقه ويلتفون حوله ويفيقون من سكرتهم؛ فأعلنها صريحة "ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد". ففي نظر الفراعنة أن كل مخالف لرأيهم هو مفسد في الأرض مهما كان حاله أو مطالبه. ففرعون مصلح وموسى نبي الله مفسد ولابد في نظر فرعون من قتله كغيره من المفسدين.

وعندما قام الناصحون بالتذكير ومحاولة النصح قال فرعون: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"

سبيل الرشاد يا كذاب يا مخادع!!
سبيل الرشاد أن نعبدك من دون الله ونسبح بحمدك، وندور في فلك قدسك وندع الإله الحق الواحد القهار.
سبيل الرشاد أن تنحي شرع الله وتحارب نبي الله ودين الله ودعوة الله وأهل الله.؟
سبيل الرشاد أن تحكم الناس بالحديد والنار وتذيق الناس الخسف والهوان.؟
سبيل الرشاد أن تسحل الناس في أمن دولتك وأقسام شرطتك حتى صار الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.؟
سبيل الرشاد أن تتنعم أنت وهامان وقارون بالمليارات، والناس تعمل في طاحونة ولا تستطيع أن تسد رمقها.؟
سبيل الرشاد أن نحاصر إخواننا وتمنع عنهم موارد الحياة من أجل عيون الأعداء.؟

هذا هو سبيل الرشاد عند الظالمين وعند الطغاة والفراعين، وكلهم على قناعة بأنهم محقون وأن كل من لا يرضى بهذا منهم ضالون مفسدون.

الفراعين.. والاستخفاف بالمخالفين
وهذا إنما يأتي من الكبر والغرور.. فطول فترة الملك، وامتداد فترة الإمهال، ورؤية نفاذ الأمر والنهي، والشعور بالقدرة على قهر الشعب، تجعلهم يعتقدون أنهم لا يغلبون ولا يقهرون.. فيتعاملون مع كل مخالف بكل الازدراء، فالمعارضون مهما بلغ عددهم أو قدرهم "فئة مندسة"، و"مجموعة عيال"، "وشرذمة خارجة عن القانون".. واسمع إلى فرعون يقول: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون)، وراجع حال الملأ من قوم عاد وثمود ولوط ومدين.. ستجد هذا الاستخفاف والاحتقار في تعاملهم جميعا مع كل من نادى بالإيمان والإصلاح والهدى والصلاح. فهي سمة عامة لكل طاغية وظالم قديما وحديثا.

تأخر الفهم وعدم الاعتبار
والقرآن يقول هذا "لهم قلوب لا يفقهون لها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون"

فجميعهم لم يفهموا مطالب قومهم، ولم يشعروا بحاجات شعوبهم، ولم يستوعبوا قدرة شعوبهم إذا انفجروا وانقلبوا عليهم، والعجيب أن واحدا منهم لم يتعظ بفعل الله تعالى فيمن سبقه، ومكر الله بالظالمين، وقصم الله للجبارين، وظهور الحق على الباطل دائما وأبدا في مآلات الأمور.

والعجيب أيضا أنهم لا يحسنون تقدير مواقفهم في أواخر عهودهم وقرب زوال سلطانهم ، وربما لو استوعب الواحد منهم الموقف لخرج بطلا قوميا، وستر عن نفسه الفضائح والمثالب والمعايب، ولكنهم جميعا لا يفهمون إلا بعد فوات الأوان، ولا يندمون إلا حين لا ينفع الندم، ولو أخذوا العبرة من السابقين .. ولكن يبدو أنه مكر الله الذي يمهل ولا يهمل ، ويملي للظالم ولكنه إذا أخذه لم يفلته.

لقد كان مطلب موسى بعد الدعوة للتوحيد، أن يرسل فرعون معه بني إسرائيل، فلو فعل لربما بقي حاله وملكه إلى أن يلقى الله فيحاسبه على ما قدم، ولكن لا.

أوحى الله لموسى أن يخرج بقومه ويترك له البلد، فاستكثر عليهم الحياة حتى بعيدا عنه، (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين .. إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون) ، فأخرجهم الله من (جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين)، فأتبعوهم مشرقين فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين " ففلق الله البحر لموسى آية باهرة ليمر هو وقومه، ولو كان فرعون يعي ويعقل لتوقف، ولكنه العمى والاستدراج والإملاء فدخل البحر فأطبقه الله عليه.. فلما أدركه الغرق قال آمنت!!!
ءالآن.. ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من الفسدين؟؟. لا يصلح يا مسكين، لقد فهمت متأخرا جدا، واعتذرت ولكن حين لا ينفع الاعتذار..

ساعَة ُالصِّفر ِاستَدارتْ
لَنْ يُنَجِّيك َاعتِذاركْ
لا تقلْ ما كُنت ُ أدري
قالها مِنْ قبلُ جاركْ
كنتَ تَدريْ كلّّ جَور ٍ
مُشهرا ًفينا فَقارَكْ
كُنتَ تَدريْ أنَّ فينا
جائِعا ًيرجو ثِماركْ
كُنتَ تَدريْ أنَّ فينا
ظامِئا ًيرجو جِراركْ
كُنتَ تَدريْ أنَّ فينا
عاطِلا ًيرجو قرارَكْ
كُنتَ تَدريْ أنَّ فينا
هاربا ًمن حَمِّ ناركْ
كُنتَ تَدريْ أنَّ فينا
حرَّة ٌتشكو انتِهارَكْ
كُنتَ تَدريْ في سُجونٍ
ما يُؤَديه صِغاركْ
كُنتَ تَدريْ..(ولتموتوا)
كانَ بالأمْس ِشِعارَكْ
ربما ما كُنتَ تَدريْ أنَّ هذا
مِنْ مُؤداهُ انهيارك ْ
قد سَلبْتَ النَّومَ مِنَّا
وتَجرَّعْنا مَرارَكْ
قَد قَتلتَ العزَّ فينا
مُطلِقا ًفينا عِيارَكْ
قد ذرعنا الأرضَ بَحثا
لم نَرى عارا ًكَعاركْ
لَو بَذلتَ النيلَ دَمَّا
ضِعْفه ُلَنْ يمْحُ عارَكْ
لست تَدْريْ كَمْ فَرِحنا
يَومَ أحسَسْنا احتضارَكْ
كَمْ حَمَدْنا الله أنَّا
قَدْ شَهِدْناه اندِحارَكْ
باسْم رَبِّ الناس أِقسِم
ساعَة ُالسَّعد فِراركْ
يوم إعْلان ِانتحارَكْ
عيدُنا الأضحى المُبارَكْ

وخاتمة سماتهم: سوء خاتمتهم ووحدة نهاياتهم
فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة