الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ولي الأمر... واجباته وحقوقه 1/2

ولي الأمر... واجباته وحقوقه 1/2

ولي الأمر... واجباته وحقوقه 1/2

إن الاجتماع الإنساني يحتاج - من غير شك - إلى قيادة يرجع الناس إليها في ما يرومونه من تحقيق مصالحهم وفي مـا يدرأ عنهم غـوائل ما ينـزل بهم من نوازل؛ بحيـث لا يحول تباين الآراء أو تعارض الإرادات للجماعة الإنسانية في ظل هذه القيادة دون سير الجميع في خطى ثابتةٍ متوازنةٍ نحو تحقيق المصالح العامة، وهذه قضية كلية يشترك فيها بنو آدم كلهم، وليست خاصة بجنس دون جنس آخر, ولا بأهل دين دون دين آخر، ولا يكاد تُعرَف جماعة إنسانية على مدى التاريخ الإنساني عاشت حياة راقية حققت فيها ما تصبو إليه دون وجود هذه القيادة التي يرجع الناس إليها.

وقد أخذت هذه القيادة مسمَّيات متعددة على مدار التاريخ الإنساني باختلاف البيئات والثقافات، فمن ذلك: الملِك والسلطان والأمير والرئيس. وأما في الشريعة الخاتمة المنزلة على رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخذت اسم الخليفة.

تعريف الخليفة:
«خَلْفٌ نَقِيضُ قُدَّام، وجاء خِلافَه؛ أَي بعده، واسْتَخْلَفَ فلاناً من فلان: جعله مكانه. وخَلَفَ فلان فلاناً إذا كان خَلِيفَتَه. يقال: خَلَفه في قومه خِلافةً.

الخَلَفُ، بالتحريك والسكون، كلُّ مَنْ يجيء بعد من مضى، إلا أَنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر... الخَلِيفةُ مَن يقوم مَقام الذاهب ويَسُدُّ مَسَدَّه... والخَلِيفةُ الذي يُسْتخْلَفُ ممن قبله، والخَليفةُ السلطانُ الأَعظم»[لسان العرب].

ومن هنا يتبين أن الخليفة يطلَق باعتبارين:
1 - جاء بعد واحد سبقه.
2 - أنه قام مقامه، وسد مسده، ومضى على سيرته وسنته.

وهذا يقود إلى أن لفظ الخليفة قد يطلق على شخص من الناحية الشكلية فقط؛ وذلك إذا جاء بعد من سبقه ولم يسر على سنته. كما يطلَق عليه من الناحية الحقيقية؛ وذلك إذا تابع من سبقه وسار سيرته، ومن هنا يظهر أن الإنسان قد يطلَق عليه هذا اللقب وقد يُنفَى عنه؛ وذلك باعتبارين: فيطلق عليه باعتبار أنه جاء بعد من سبقه وفي الوقت نفسه يُنفَى عنه باعتبار أنه لم يقم مقامه ولم يتَّبع سنته أو يَسِر سيرته، ومن المعلوم أن أول من تولى القيادة لدى المسلمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فإن لفظ الخليفة يستحقه على وجه الحقيقة من تولى الأمر واتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار سيرته في قيادة المسلمين، ولو جاء بعده بعدد من القرون، وأما من خالف سنته ولم يسر سيرته منهم فإنما يطلَق عليه هذا اللقب باعتبار الشكل فقط، وهو أنه جاء بعد من تقدمه، ولعل تعريف الماوردي للإمامة يدعم هذا التوجيه. يقول - رحمه الله تعالى -: «فإن الله جلَّت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع» ثم يقول: «الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»[الأحكام السلطانية5-7]،
وقال ابن خلدون: «الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا»[مقدمة ابن خلدون244]، وفي الموسوعة: « رئاسة عامة في الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم»[الموسوعة الفقهية الكويتية 6/216]، و«رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبي صلى الله عليه وسلم»[5]، فهذه مجموعة نقول من مذاهب فقهية متنوعة تبيِّن أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع، وهو مما يبيِّن خطأ قول من يقول: إنها نيابة عن الشعب أو الأمة ممن تأثر بالفكر الديمقراطي.

واجبات الخليفة:
لقد أوجبت الشريعة على الخليفة كثيراً من الواجبات التي ينبغي عليه الجد والاجتهاد في تحصيلها حتى يكون لنَصْبِه فائدة. كما جعلت له حقوقاً على الرعية حتى يتمكن من القيام بما وجب عليه على الوجه المرضي.

هناك واجبان أساسيان يلزم الخليفة القيام بهما وما نُصِّب إلا من أجل تحصيلهما، وهما:
1 - حراسة الدين وحفظه: وهو أهم ما يعتنى به ويحافَظ عليه.

2 -سياسة الدنيا به: إذ لا تمضي الأمور على الاستقامة وتتحقق الأهداف العامة إلا بذلك، وهذه تتناول المصالح الدنيوية جميعها، واتخاذ الخطوات التنفيذية والتنظيمات العملية لتحقيق ذلك حتى ينتقل الأمر من مجرد وصايا نظرية إلى تصرفات وإجراءات عملية لتطبق في الواقع المعَاش.

واجبات عشرة أساسية:
ويتفرع عن هذين الواجبين أمور كثيرة أجملها الماوردي بقوله: «... والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فإنْ نَجَم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.

والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين: حتى تعم النَّصَفة؛ فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.

والثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم: ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغريرٍ بنفس أو مال.

والرابع: إقامة الحدود: لتُصَان محارم الله - تعالى - عن الانتهاك، وتُحفَظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة: حتى لا تظفر الأعداء بغِرَّة ينتهكون فيها محرَّماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.

والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله - تعالى - في إظهاره على الدين كله.

والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.

والثامن: تقدير العطايا وما يُستحَق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء في ما يفوِّض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة؛ فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله - تعالى -: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

فلم يقتصر الله - سبحانه - على التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقاً عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترع. قال النبي -عليه الصلاة والسلام -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[الأحكام السلطانية 17].

مما تقدم ذكره يتبين أن الخليفة يجب عليه أمام الأمة أمور لا يجوز له أن يتخلى عنها أو يتقاعس عن الإتيان بها، وأن المسؤولية تقع عليه كاملة في القيام بها، فحتى إن أناب عنه بعضهم أو وكَّلهم وفوَّض إليهم بعضاً من مهامه لتعذُّر القيام بها من قِبَلِه من غير مُعِين يساعده، لكن عليه المتابعة وتفقُّد الأمور حتى يتبين له أنها تسير على النحو المرضي الموافق للشريعة ويحقق المصالح العامة للأمة، ولا يجوز له أن يتشاغل عن ذلك ولو بزعم العبادة؛ فإن قيامه على أمر الأمة وحفظ دينها وتحقيق مصالحها ودرء الغوائل عنها: أفضل وأعظم أجراً من نوافل العبادات.

تنوع الواجبات:
1 - وهذه الواجبات منها ما هو ديني صرف: كحفظ الدين على أموره المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، ويتفرع عن ذلك: إقامة المدارس والمعاهد والكليات التي تدرَّس فيها هذه الأمور، ونصب المفتين الذين يفتون الناس في ما ينوبهم من قضايا ونوازل، وإزالة الشبه التي تقع لبعض الناس وردعهم عن التمادي في باطلهم بعد إقامة الحجة وإزالة العذر، والعناية بالمساجد التي يؤدي فيها المسلمون صلواتهم: من نظافة وفرش وترميم عند الحاجة ونصب الأئمة لها، وتحري أهلَّة الشهور وخاصة ما تعلقت به العبادة كشهري الصوم والحج، وتيسير سبيل الحج والإعانة عليه، وقبض الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية.

والدعوة إلى الله - تعالى - بكل سبيل، وإعانة الدعاة إلى الله على ذلك، وجهاد من أبى وعاند بعد الدعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة حتى يُسلِم أو يعطي الجزية.

2 - ومنها ما هو أمني: سواء مما يتعلق بالأمن الداخلي: كتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين وإقامة الحدود لتصان المحارم وتحفظ حقوق العباد؛ وهذا يحتاج إلى نصب القضاة الذين يحكمون بالشريعة ويكونون مستقلين في ما يصدر عنهم من أحكام؛ بحيث لا يتأثرون بشيء في ما يُصدِرون من أحكام، وإيجاد جهاز شرطة قوي قادر على تحقيق المصالح المناطة به.

أو الأمن الخارجي: كتحصين الثغور وحفظ حدود الديار من الاختراق من قِبَل الأعداء، وهذا يستلزم وجود جيش قوي وقادر مزود بالأسلحة المناسبة مع ما ينضاف إلى ذلك من التدريب وتحديث الأسلحة.

أو الأمن الفكري: كحفظ عقول الناس من الأقوال والأفكار المخالفة لصحيح المنقول أو صريح المعقول، ومنازلة الغزو الفكري القادم من خلال الفضائيات أو شبكة المعلومات، وما يتبع ذلك من إنشاء ولاية للحسبة الفكرية تُعنَى بمتابعة الأفكار والأقوال التي تُتدَاول في وسائل الإعلام المتنوعة والكتابات حتى يأمن الناس على عقائدهم وعقولهم.

إن الذي لا شك فيه أن القيام بذلك يحتاج إلى هيئات مساعدة وتنظيمات إدارية ومؤسسات إشرافية ورقابية، وبذلك يتبينَّ أن الواجبات المناطة بولي الأمر كثيرة ومتشعبة وقابلة للاتساع بحسب ما يلزم للقيام بالواجبات الأساسية.

3 - ومنها ما هو اقتصادي: حيث يُعنَى بحفظ ثروات المسلمين وتنميتها، وما يستتبع ذلك من إقامة المشروعات الزراعية والصناعية حسب بيئة المجتمع، وإنشاء الأجهزة والإدارات التي تعمل على تحقيق ذلك، ثم توزيع هذه الثروات بين المسلمين بالعدل؛ حتى لا تستأثر بالخيرات فئة ويحرم منها آخرون، ومنع المعاملات المحرَّمة كالربا وكل ما جاء في باب البيوع المحرمة والعقود المحرمة كذلك.

4 - ومنها ما هو إداري: حيث يستعين بالأَكْفَاء النصحاء القادرين على تحقيق خطة وطموحات الدولة؛ فيوليهم الولايات ويضع التنظيمات المناسبة التي تعين على ذلك، ثم هو بعد ذلك يتصفح الأحوال ولا يتشاغل عن متابعة الأمور لا بدنيا ولا بعبادة، فهذا وما شاكله مما يجب على الإمام القيام به

ويستحدث من الأنظمة والتدابير الموافقة للأحكام الشرعية ما يعين على القيام بكل ما وجب على أحسن حال من حيث الدقةُ والأمانةُ وسرعة إنجاز الأعمال.

5 - ومنها ما هو سياسي: وهو القيام على أمور الأمة بما يصلحها وما يترتب على ذلك: من إشراك الأمة في تحمُّل مسؤولية أمانة الحفاظ على دين الأمة وإصلاح دنياها ومشاورة أهل الشورى في تحقيق ذلك وترك الاستبداد بالأمور، وكفالة حرية الأمة في اختيار ما تستريح إليه مما تُقرُّه أحكام الشريعة، ومنع الفساد وتضييق سُبُله إذا لم يمكن منعه كليّاً.

6 - ومنها ما هو اجتماعي كرعاية أخلاق الناس ودفع المنكرات وإشاعة المعروف وبالجملة كل ما ورد في ما يقوم به أهل الحسبة مع تعيين المحتسبين الأَكْفَاء لتلك المهمة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة